برينستون- بينما يتفرج بقية العالم
بمزيج من التسليه والشفقة، اصبحت السياسة البريطانية في عصر البريكست تشبه
المسلسلات التلفزيونية الطويلة فهل الفوضى التي بدأت تدب في بريطانيا هي جيده
لأوروبا أو حتى لبريطانيا؟ ربما ولكن فقط بمعنى ان حطام القطار يعطي الدروس عن ما
الذي يجب تجنبه.
إن اللاعبين الفاعلين في السياسة
البريطانيه يمثلون ويتكلمون بصراحه عن كيف ان الحياة هي بمثابة محاكاه للفن
والنموذج الذي تبنوه هو مسلسل لعبة العروش الدرامي والقائم على اساس الطعن في
الظهر أو الكوميديا السوداء لمسلسل هاوس اوف كاردز ( النسخة البريطانيه وليس
النسخة الامريكيه المقلده الطويله والممله والتي تم الغاءها مؤخرا بعد ادعاءات
التحرش الجنسي ضد نجم تلك النسخة كيفن سبيسي).
وعلى العكس من مسرحية هاملت والتي
تموت فيها كل الشخصيات تقريبا باستثناء شخص واحد اجنبي وهو فورتينبراس والذي يظهر
من اجل اعادة الحياة الطبيعة فإن المسرحيات الدراميه السياسية الحديثه التي تشبه
الخيال لا تنتهي بشكل مرضي على الاطلاق ودراما بريكست هي بمثابة تقليد متقن للفن
ولا بد ان تنتهي الى نتيجه فوضويه .
إن بريكست ليس فقط إضطراب سياسي بل
ثورة وتاريخيا فإن عمليات تغيير المواقف السياسيه بشكل راديكالي كانت نادرة ضمن
السياسة البريطانية ومن الامثلة على تلك الثورة العظيمة سنة 1688 والتي نتج عنها
نظام قائم على اساس حزبين وهما ويجس والذي أيد التسوية الجديدة والتوريز والذين
قاوموا تلك التسوية.
لقد استمر هذا النظام لأكثر من قرن
حتى سنة 1840 عندما اصبح اسم ويج مترادفا مع الليبرالية والتوري مع التيار المحافظ
ولكن في سنة 1846 انقسم حزب المحافظين وذلك بسبب الحد من التعرفه الحمائيه
المفروضه على الحبوب حيث كان ذلك يعتبر أمرا سيئا للقاعدة الريفيه للحزب من
المزارعين وايجابيا بالنسبة للتصنيع وللمجتمع بشكل عام ولقد استمر التوازن
السياسي الناتج عن ذلك لمدة قرن تقريبا وذلك حتى العشرينات من القرن الماضي عندما
حل حزب العمال مكان الليبرالين كبديل عن الاتجاه المحافظ.
يمكن القول إن هناك تغيير سياسي آخر
كان مستحقا منذ فتره طويله ففي فترة ما بعد سنة 2000 لعبت رئيسة الوزراء البريطانية
تيريزا ماي دورا حيويا في تحسين صورة حزب المحافظين والذي كان يعرف بإسم
"الحزب البغيض" ولكن استراتيجتها للبريكست والتي تجنبت بموجبها ان تتبنى
مواقف واضحه قد حولت الحزب الى شيء اسوأ: عصبة سياسية مخادعة ومقسمة وضعيفة والتي
يمكن ان تكون قراراتها مميته.
إن بريكست يتجاوز التقسيم القديم القائم
على اساس حزبين في السياسة البريطانية فكتلة حزب المحافظين في البرلمان تشمل أقلية
صغيره تنظر للبريكست ككارثة وآخرون يريدون حل وسط يتم التفاوض عليه بشكل جيد وهناك
مجموعة كبيره تعارض أي حل وسط وتتبنى فكرة الخروج الكامل والتام من الإتحاد
الأوروبي.
إن حزب العمال مقسم كذلك فزعيم الحزب
جيرمي كوربين معادي للإتحاد الأوروبي لإنه يمكن ان يمنعه من تطبيق برنامجه الإشتراكي
الطوباوي وفي الوقت نفسه هناك العديد من نواب حزب العمال يقرون بإن الإتحاد
الأوروبي يلعب دورا مركزيا في توفير الفرص الإقتصاديه والحراك الإجتماعي للمواطنين
البريطانيين .
لإنه لا توجد قضايا اساسية تفصل
المحافظين المؤيدين للإتحاد الأوروبي عن العمال المؤيدين للإتحاد الأوروبي فلقد
بدأ الآن تعاون عملي بين اعضاء في الحزبين ولكن من اجل ان يحظى مثل هذا التحالف
البرلماني بشرعيه ديمقراطيه يجب ان يقدم نفسه ليس فقط كتحالف للنواب من نفس الفكر
ولكن كحزب سياسي جديد وببرنامج يواجه بشكل واقعي تحديات التغير التقني والعولمه.
لقد حصلت تحولات مشابهه في بلدان
اوروبية اخرى عندما انهارت الأحزاب والتقاليد المترسخه في المجتمع ففي التسعينات
تفكك نظام الحزبين الرئيسيين في ايطاليا بشكل عام وذلك عندما تأثر الحزب
الديمقراطي المسيحي بفضائح فساد وتفكك الحزب الشيوعي بسبب انهيار الإتحاد
السوفياتي وأصابت السياسه الإيطاليه حاله من عدم الإستقرار منذ ذلك الحين.
وفي فرنسا فإن الحزب السياسي الجديد
للرئيس ايماونيل ماكرون وهو الجمهورية الى الامام قد حل عمليا مكان حزب يمين الوسط
القديم وهو الحزب الديغولي الجمهوريون بالإضافة الى الاشتراكيين من يسار الوسط
ولكن ما يزال ماكرون يقر بإن تعديله للسياسة الفرنسيه لن يكتب له النجاح ما لم
تكون هناك تجارب متطابقه على المستوى الأوروبي واذا لم يتحقق تحول على المستوى
الأوروبي فإن هذا سيكون بسبب الحكايه التحذيريه التي تحصل في أوروبا.
أما في المانيا فإن انهيار مفاوضات
التحالف بين الحزب الديمقراطي المسيحي والاتحاد المسيحي الإحتماعي والديمقراطيون
الأحرار والخضر يوحي بإن هناك حاجه لتغيير سياسي هناك ايضا.
في واقع الأمر فإن التغيير قد يحظى
بفرصة افضل للنجاح في اماكن اخرى في اوروبا مقارنة بالمملكه المتحدة فمشاكل
بريطانيا تعتبر اعمق من السياسه الحزبيه فبريكست أطلق ثوره في بلد لا يوجد فيه
تقاليد ثوريه فالإنسحاب من الإتحاد الأوروبي سيتطلب إقتلاع أطر قانونية ومؤسساتيه
معقده للغايه والتي تدور حولها معظم المعايير والإتفاقيات السياسيه.
حتى الان فإن كل ترتيب بديل تم
اقتراحه كان ينطوي على المشاكل فعلى سبيل المثال لو قامت بريطانيا بتحرير تجارتها
وسياساتها التنظيميه فإن العمال البريطانيين قد ينتهي بهم المطاف في وضع اسوأ من
وضعهم عندما كانوا تحت نظام الإتحاد الأوروبي ومن المحتم أن كل خطوه ملموسه خارج
الاتحاد الأوروبي سوف تؤدي الى المزيد من التفكك الحزبي .
اذا نظرنا للامام فإن هناك اثنين من
السيناريوهات بالنسبة للسياسه البريطانيه . ان السيناريو الأول هو سيناريو هاملت
وبموجب هذا السيناريو تستمر الفوضى حتى تخرج اوروبا بشكل صعب من السوق الموحده
والاتحاد الجمركي والمسرح سيكون مليئا بالجثث السياسيه وستترتب على ذلك كارثه
اقتصاديه .
في السيناريو الثاني فإن المنطق سيفرض
نفسه : أن تتجذر براجماتيه تشابه براجماتيه ماكرون في بريطانيا بحيث تحل مكان
الشعبويه التي تشبه شعبوية بوجاد والتي ادت الى تدعيم موقف حملة الخروج البريطاني
المعاديه للاتحاد الاوروبي. إن هذا السيناريو يفترض ان الماكرونيه ستنجح على
المستوى الأوروبي وذلك حتى تصبح بمثابة حمايه من السياسات المشوهه والفاشله في
الولايات المتحده الأمريكيه وروسيا وتركيا بالإضافة الى حالة عدم الإستقرار الجديده
في المانيا .
إن هذه النتيجه ستكون شكسبيريه كذلك
حيث نتذكر مسرحية "العبرة في النهايه" وهي من اكثر مسرحيات شكسبير
الكوميديه تعاسه.
المصدر: PS، موقع "اللواء"