بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

3 تموز 2020 07:25ص «النظام السوفييتي» يُسيطر على أميركا العظمى

حجم الخط

كان الاتحاد السوفييتي أرضا خصبة للنكات السياسية، التي احتلت مكانة بارزة في الحياة الثقافية كتلك التي تحتلها البرامج الكوميدية التي تذاع في وقت متأخر من الليل في الولايات المتحدة. وفقا لإحدى القصص الشعبية، انتهت الحال بالشاب الذي صرخ في الساحة الحمراء قائلا إن الزعيم السوفييتي العاجز ليونيد بريجنيف "أحمق" إلى الحكم عليه بالسجن لمدة خمسة وعشرين عاما ونصف العام ــ ستة أشهر لأنه أهان رئيس مجلس السوفييت الأعلى، وخمسة وعشرين عاما لأنه كشف عن أسرار الدولة.

وقد اتبعت ردة الفعل الغاضبة من قِـبَـل إدارة ترمب إزاء كتاب جديد من تأليف مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون نصا مماثلا. فالكتاب يعتبر خطيرا ليس لأنه يهين دونالد ترمب بل لأنه يكشف أن الرئيس غير مؤهل بدرجة شديدة و"جاهل إلى حد مذهل". إذا لم يكن ذلك واضحا بالفعل، فإن العالم بأسره بات يعرف الآن أن الولايات المتحدة تفتقر إلى أي توجه استراتيجي أو قيادة تنفيذية متماسكة.

الواقع أن العديد من جوانب العام الرهيب الحالي في أميركا تذكرنا بسنوات الاتحاد السوفييتي الأخيرة، بدءا باشتداد حدة الصراع الاجتماعي والسياسي. في الحالة السوفييتية، سرعان ما صعدت الخصومات الـعِـرقية المكبوتة والتطلعات الوطنية المتنافسة إلى السطح، فدفعت البلاد بالكامل نحو العنف، والانفصال، والتفكك. وفي الولايات المتحدة، تمثلت استجابة ترمب للاحتجاجات عل الصعيد الوطني ضد العنصرية، ووحشية الشرطة، والتفاوت بين الناس في تأجيج المزيد من الانقسام العنصري التاريخي في أميركا. وكما حدث مع تماثيل لينين أثناء انهيار الإمبراطورية السوفييتية، يجري الآن إسقاط تماثيل زعماء الكونفدرالية في كل مكان تقريبا.

يتعلق أحد أوجه الشبه الأخرى بالاقتصاد. كان الاتحاد السوفييتي يمتلك جهازا معقدا للتخطيط وتخصيص الموارد، والذي اجتذب الأشخاص الأفضل تعليما في المجتمع، لكنه أوكل لهم مهام غير منتجة ومدمرة في كثير من الأحيان. الولايات المتحدة لديها وال ستريت. من المؤكد أن قطاع الخدمات المالية الهائل الضخامة في أميركا ليس معادلا للجنة التخطيط التابعة للدولة السوفييتية، لكنه في الأغلب الأعم يستخرج القيمة بدلا من خلقها، وعلى هذا فمن المحتم أن يشكل جزءا من أي حوار حول تخصيص الموارد.

حتى اللحظة التي شهدت انهيار النظام السوفييتي، كان أقل القليل من المراقبين يعتقدون أن الانهيار قد يحدث حقا. عند تقييم حالة النظام الأميركي، من الأهمية بمكان أن نتذكر أن أهل الاقتصاد ليسوا بارعين في التنبؤ. إذ يعتمد هذا الفرع من المعرفة بالكامل على الاستقراء من الظروف المعاصرة على افتراض أن العناصر الأساسية التي يتألف منها الوضع الخاضع للتحليل لن تتغير. ولأنهم يعلمون علم اليقين أن هذا افتراض غير واقعي وسخيف، فإن خبراء الاقتصاد يختارون غالبا محاكاة علماء اللاهوت في العصور الوسطى بصبغ تكهناتهم بلغة ومفردات غامضة مُـلغِزة. لا يحتاج المرء إلى معرفة اللغة اللاتينية لاستحضار المصطلح ceteris paribus ("في حال تساوي كل شيء آخر") كمقدمة لتكهناته.

في ضوء هذه الممارسة المعتادة، ينبغي لنا أن ننتبه بشدة إلى التكهنات الطويلة الأمد المعاكسة للبديهة والتي تتأكد صحتها بالفعل. في أواخر ستينيات القرن العشرين، قدم رجل الاقتصاد روبرت مونديل ثلاثة تكهنات: الأول أن الاتحاد السوفييتي سيتفكك؛ والثاني أن أوروبا ستتبنى عملة موحدة، والثالث أن الدولار سيحتفظ بمكانته كعملة دولية مهيمنة. وبالنظر إلى أن نظام القيمة الاسمية (معيار الذهب) انهار بعد ذلك بفترة وجيزة، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار، فقد بدت هذه التكهنات شاذة وجامحة. ولكن تبين أن مونديل كان مصيبا في تكهناته الثلاثة.

لكن الظروف التي يدين لها الدولار بهيمنته التي طال أمدها تتغير الآن. إن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) تدفع بشكل أكثر رقمية للعولمة. ففي حين سجلت حركة الأشخاص والسلع عبر الحدود انخفاضا شديدا، تتدفق المعلومات على نحو لم يسبق له مثيل، مما يبشر باقتصاد عديم الوزن على نحو متزايد.

علاوة على ذلك، على مدى السنوات الثلاث ونصف السنة الأخيرة، كانت إدارة ترمب تستدعي ردة فعل عنيفة في نهاية المطاف ضد استخدامها للدولار كسلاح لتحقيق غايات سياسية. كانت العقوبات المالية والثانوية شديدة الفعالية في هيئتها الأصلية، عندما كانت موجهة ضد قوى كريهة صغيرة ومنعزلة مثل كوريا الشمالية. لكن استخدامها على نطاق أوسع ضد إيران، وروسيا، والشركات الصينية، أثبت كونه ممارسة هَـدّامة. فقد سارعت أوروبا، وليس روسيا والصين فقط، إلى اتخاذ خطوات لتطوير آليات بديلة للمدفوعات والتسويات الدولية.

كما تشهد أنظمة المدفوعات الرقمية غير الحكومية تطورا سريعا ، وخاصة في الأماكن حيث الدولة ضعيفة، أو لا تحظى بالثقة، أو تفتقر إلى المصداقية. من المرجح أن تحدث ثورة المدفوعات بسرعة أكبر في البلدان الفقيرة، كما هي الحال في أفريقيا أو بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة. وتقدم التكنولوجيات الرقمية الجديدة لهذه المجتمعات بالفعل وسائل الانتقال من الفقر والتخلف المؤسسي إلى التعقيد المؤسسي وفرصة الابتكار والازدهار.

كانت مكانة الدولار المركزية الطويلة الأمد تعكس الطلب العالمي على أصول سائلة آمنة وعميقة. لكن هذا الشرط سيختفي عندما تظهر أصول آمنة بديلة، وخاصة إذا كانت مدعومة من قِـبَـل مزودين غير حكوميين. الأمر الأكثر أهمية هو أن حكم الدولار الذي طال أمده للنظام المالي الدولي كان يعتمد على بقاء الولايات المتحدة مستقرة اقتصاديا، وذات مصداقية ماليا، ومفتوحة ثقافيا. والآن وقد أصبحت مواطن الخلل التي تعيب النظام الأميركي بادية للعيان، فربما يبدأ العالم التشكك في كفاءة هذا النظام وفعالية الدولة.

تُـعَـد أزمة كوفيد-19 مثالا حيا على ذلك. فمن حيث عدد الإصابات والوفيات، وفعالية احتواء الفيروس، كان أداء الولايات المتحدة هزيلا مقارنة بمعظم الدول الأخرى ــ وكل الدول المتقدمة الأخرى. لقد تحولت أميركا في عهد الرئيس دونالد ترمب إلى عار دولي.

في ظل هذه الظروف، لن يكون الدولار قادرا على شراء ذات القدر الذي كان يشتريه دوليا في السابق، بل وربما ينتهي إلى مصير أشبه بمصير الروبل السوفييتي القديم، حتى ولو حدث تغيير درامي في القيادة والاستراتيجية. لنتذكر هنا أن ميخائيل جورباتشوف لم يأت خلفا لبريجنيف على الفور، وبحلول الوقت الذي وصل فيه إلى السلطة ثم قدم البيريسترويكا (سياسة الانفتاح وإعادة البناء)، كان الأوان فات. وتحولت الوعكة إلى مرض قاتل.


المصدر: project syndicate 

ترجمة: إبراهيم محمد علي