بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

12 أيلول 2020 09:08ص انتقام «العلاقة الخاصة» بين أمريكا وبريطانيا

حجم الخط

قبل خمسة وسبعين عاما كانت هيبة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عند أعلى مستوياتها على الإطلاق. فقد هزمتا اليابان الإمبراطورية، وألمانيا النازية، وقد فعلتا ذلك باسم الحرية والديمقراطية. صحيح أن حليف الدولتين، الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، كان تصوره لهذه الـمُـثُـل العليا مختلفا، وأنه قام بأغلب الجهود في مقاومة قوات هتلر. ومع ذلك، كان المنتصرون الناطقون باللغة الإنجليزية هم الذين شكلوا هيئة نظام ما بعد الحرب في أجزاء كبيرة من العالم.

وُضِـعَـت المبادئ الأساسية لهذا النظام في ميثاق الأطلسي، الذي صاغه ونستون تشرشل والرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت في عام 1941 على متن سفينة حربية قُـبالة سواحل نيوفاوندلاند. كان تصورهما، بعد هزيمة قوى المحور في نهاية المطاف، يتلخص في عالَـم قائم على التعاون الدولي، والمؤسسات المتعددة الأطراف، وحق الشعوب في الاستقلال والحرية. ورغم أن تشرشل قاوم تمديد هذا الحق ليشمل رعايا الاستعمار البريطاني، فإن روزفلت كان يعتقد أن العلاقة الأنجلو أميركية أكثر أهمية من أن يدور حولها الخلاف أكثر مما ينبغي.

لعقود عديدة، وعلى الرغم من عدد من الحروب الطائشة، واندلاع هستيريا الحرب الباردة، والدعم الانتهازي لبعض الحلفاء غير الديمقراطيين على الإطلاق، حافظت المملكة المتحدة والولايات المتحدة على صورتهما كنموذج للديمقراطية الليبرالية والتعاون الدولي.

في عصر دونالد ترمب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تحطمت هذه الصورة. فبين جميع الديمقراطيات الأقدم في العصر الحديث، نجح الشعبويون اليمينيون في بريطانيا والولايات المتحدة في الاستيلاء على الأحزاب المحافظة والحكم في بلدهم. حدث ذات الشيء في المجر وبولندا، لكن أيا من هذين البلدين لم يكن قَـط نموذجا لليبرالية، كما حدث في الهند، لكن ديمقراطية الهند ليست قديمة بذات القدر.

الواقع أن الجمهوريين من أتباع ترمب ــ الذين يحملون شعار "أميركا أولا" المقتبس من الانعزاليين من ثلاثينيات القرن العشرين، الذين كانوا غالبا أكثر تعاطفا مع هتلر من تعاطفهم مع روزفلت ــ يرمزون لكل ما عارضه روزفلت. كما أدارت بريطانيا ظهرها لأوروبا على نحو ما كان تشرشل ــ نصير التعاون الدولي وواحد من أوائل المنادين بالوحدة الأوروبية (وإن كان موقفه غامضا بشأن دور بريطانيا في أوروبا الموحدة) ــ ليتسامح معه أبدا.

ولكن كيف حدث هذا؟

هناك بطبيعة الحال العديد من الأسباب، التي لا تنفرد بها الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة: اتساع فجوة التفاوت الاقتصادي، والمؤسسات المتصلبة الجامدة، والنخب الراضية عن الذات، ومعاداة المهاجرين، وما إلى ذلك. لكني أزعم أن المشاكل الحالية في كل من البلدين، ترتبط ارتباطا وثيقا بأعظم انتصاراتهما في عام 1945.

بعد خروجها من الانعزالية ونجاحها في إيقاع الهزيمة بقوى المحور، ربما تعاظمت سطوة الولايات المتحدة بسبب قوتها العسكرية. الواقع أن إغراء اعتبار تشرشل (الذي كان دائما أكثر شعبية في الولايات المتحدة من بريطانيا) نموذجا للقيادة، دفع العديد من الرؤساء الأميركيين إلى الجنوح. إنه الوجه العبوس للاستثنائية الأنجلو سكسونية والمواقف التاريخية في نُـصرة الحرية التي تجعل قادة الولايات المتحدة يشعرون بتقدير الذات. لم يكن جورج دبليو بوش أول رئيس من عَـبَـدة تشرشل يقرر شن حرب مضللة، في حالته كانت حرب العراق ضد صـدّام حسين، الذي كان وحشيا، لكن التهديد الذي فرضه لم يكن مماثلا لتهديد هتلر ولو من بعيد.

كان إحياء ترمب للعزلة المتمثلة في شعار "أميركا أولا"، ومقته للمؤسسات الدولية وحلفاء الولايات المتحدة في العالم الديمقراطي، راجعا ولو جزئيا على الأقل إلى حرب بوش الكارثية. وقد استنصر ترمب ذلك النوع من الناس ــ أصحاب البشرة البيضاء من الريفيين المتدنيين تعليميا غالبا والذين يشعرون بقدر عميق من الاستياء إزاء النخب الساحلية ــ الذين أُرسِـلوا ليلاقوا حتفهم في مغامرات أميركا الخارجية.

كان رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق توني بلير من عَـبَـدَة تشرشل، مثله في ذلك كمثل بوش. فهو أيضا كان يتبنى رؤية مسيحية للتحالف الأنجلو أميركي في مهمة لتخليص العالم من أمثال هتلر المعاصرين. في وقت حرب العراق، زعم بلير أن أمة واحدة فقط وقفت إلى جانب بريطانيا في ساعة الخطر الأعظم في عام 1940. ولهذا السبب بات لزاما على بريطانيا أن تنضم إلى أميركا في غزو العراق. وبصرف النظر عن الخطأ التأريخي (فلم تكن الولايات المتحدة دخلت الحرب ضد ألمانيا في ذلك التاريخ بعد)، فقد خدم حنين بلير غرضا أحمق.

ولكن من السويس في عام 1956 إلى فيتنام في ستينيات القرن العشرين والعراق في عام 2003، لم يكن الحنين إلى الماضي هو السبب الوحيد الذي دفع الرؤساء ورؤساء الوزراء إلى خوض الحروب منذ عام 1945. كان الشبح الآخر الذي طارد شاغلي البيت الأبيض والبيت رقم 10 في داوننج ستريت متمثلا في نيفيل تشامبرلين و"استرضائه" لهتلر في عام 1938. فمن منطلق إدراكه لحقيقة مفادها أن بلده لم يكن مستعدا لخوض الحرب أو راغبا في ذلك، سمح تشامبرلين لهتلر بغزو تشيكوسلوفاكيا ("مشاجرة في بلد ناء"). وقد ندد تشرشل بهذه السياسة على أنها "هزيمة مكتملة وتامة". وكان الخوف بين قادة ما بعد الحرب من الظهور على أنهم صورة من تشامبرلين لا يقل قوة عن أملهم في تكرار مجد تشرشل.

الواقع أن هذا المجد جعل بريطانيا أقرب إلى الإفلاس، لكن الذكرى الباقية لأروع لحظاتها كانت أشد تدميرا لثروات البلاد. ظلت أوروبا حريصة على البقاء على مسافة بعيدا عن كل محاولة أوروبية لإنشاء مؤسسات مشتركة، ليس فقط لأن حكومة كليمنت أتلي الاشتراكية في الأربعينيات كانت تعتقد أن أوروبا ستدمر دولة الرفاهة في بريطانيا، بل وأيضا لأن البريطانيين لم يكن بوسعهم أن يتصوروا بلدهم على قدم المساواة مع القوى الأوروبية الأخرى. لقد انتصرت بريطانيا في الحرب؛ وكان الآخرون إما نازيين أو سحقهم النازيون.

حتى بعد أن أدرك قادة مثل هارولد ماكميلان أن المملكة المتحدة لا تملك ترف البقاء خارج الجماعة الاقتصادية الأوروبية، كان إغراء الوقوف كتفا بكتف مع الولايات المتحدة، خاصة في الحروب النائية، أقوى من الرغبة في الاضطلاع بدور رائد في أوروبا. وعندما كانت بريطانيا لا تزال الأفضل بين متساوين إلى حد كبير في الخمسينيات، كان من دواعي سرور أوروبيين آخرين أن يسمحوا لها بتولي زمام القيادة وتشكيل مستقبل القارة. وكانت الولايات المتحدة، الأقل عاطفية من بريطانيا آنذاك إزاء "العلاقة الخاصة"، حريصة على حث البريطانيين على الاضطلاع بذلك الدور. وقد وصف وزير خارجية الولايات المتحدة دين أتشيسون رفض اغتنام الفرصة على أنه "أعظم خطأ ارتكبته بريطانيا في فترة ما بعد الحرب".

الآن أصبحنا في مواجهة أميركا الانعزالية وبريطانيا المنفصلة عن أوروبا على نحو متزايد. وقد تبين لنا أن لحظة مجدهما الأعظم كانت تحتوي على بذور كارثة تنتظر الحدوث في المستقبل.

المصدر: project syndicate
ترجمة: إبراهيم محمد علي