بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

24 أيلول 2018 12:54م انفجار التطرف السياسي في العالم

حجم الخط

يبدو أن الاقتصاد الرديء يولد سياسة رديئة. فقد دفعت الأزمة المالية العالمية، وما أعقبها من تعاف هزيل ، بالريح إلى أشرعة التطرف السياسي. في الفترة من 2007 إلى 2016، تَضاعَف دعم الأحزاب المتطرفة في أوروبا، فحقق كل من حزب الحشد الوطني في فرنسا (الجبهة الوطنية سابقا)، وحزب البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا، وحزب الرابطة في إيطاليا، وحزب الحرية في النمسا، وحزب الديمقراطيين في السويد، مكاسب انتخابية في العامين الأخيرين. ولم أذكر حتى دونالد ترمب أو الخروج البريطاني.

من المؤكد أن انفجار التطرف السياسي على هذا النحو لا يمكن تفسيره بالضائقة الاقتصادية وحدها. لكن علاقة الارتباط بين الأحداث الاقتصادية السيئة والسياسة الرديئة لافتة للنظر إلى الحد الذي يجعل من غير الممكن تجاهلها.

 

وأقصد بالسياسة الرديئة النزعة القومية المعادية للأجانب وقمع الحريات المدنية في الداخل كما نرى في الدول التي تقودها حكومات شعبوية. وأقصد بالسياسة الجيدة الأممية، وحرية التعبير، والحكم الخاضع للمساءلة، وهو ما كان سائدا خلال فترة الرخاء التي أعقبت الحرب. ولنطلق على الأولى مسمى "الديمقراطية غير الليبرالية" والثانية "الديمقراطية الليبرالية" على سبيل الاختصار.

 

أعنى بالاقتصاد الرديء السماح للأسواق المالية بإملاء ما يحدث للاقتصاد الحقيقي. وفي المقابل، يدرك الاقتصاد الجيد واجب الحكومة المتمثل في حماية ناخبيها ضد المحن، وانعدام الأمان، والكوارث.

 

من الصعب للغاية أن يقبل الليبراليون تصورا مفاده أن السياسة الرديئة من الممكن أن تنتج اقتصادا جيدا، وأن السياسة الجيدة قد تنتج اقتصادا رديئا. ومع ذلك، تقدم لنا المجر مثالا واضحا للحالة الأولى. ففي عهد رئيس الوزراء فيكتور أوربان، أصبحت البلد استبدادية على نحو متزايد. لكن البرنامج الاقتصادي الذي تبنته الحكومة، أو "اقتصاد أوربان"، يقوم على ركائز راسخة في فِكر جون ماينارد كينز. وبنفس المنوال، من المؤكد أن السياسة الجيدة من الممكن أن تتعايش مع الاقتصاد الرديء: فقد حكمت سياسات التقشف التي فرضها وزير الخزانة البريطاني السابق جورج أوزبورن على المملكة المتحدة بسنوات من الركود.

 

وبين القوميين والليبراليين، من الأسهل على الطائفة الأولى ملاحقة سياسات الحماية الاجتماعية. وتاريخيا، يشمل ذلك بطبيعة الحال النازيين، الذين كانوا اشتراكيين وطنيين، وموسوليني الذي بدأ حياته السياسية ناشطا اشتراكيا. ومن ناحية أخرى، يدافع الليبراليون عن حرية حركة السلع، والبشر، والمعلومات، في حين تسعى السياسة القومية إلى تقييد حركة السلع والبشر والمعلومات.

 

صحيح أن الأحزاب اليسارية المتطرفة حققت أيضا تقدما منذ ركود ما بعد الأزمة. لكن التاريخ يشير إلى أن القوميين ربما كانوا الأعظم استفادة من نوبات الانهيار السياسي والاجتماعي. ومن السهل أن نرى السبب. فالاشتراكية الكلاسيكية هي وليدة الأممية الليبرالية، وهذا يعني أنها عقيدة داعمة للعولمة؛ فهي من حيث المبدأ لا تعرف حدودا وطنية. ومع ذلك، في مواجهة التصدعات الاقتصادية الواسعة النطاق، تصبح النزعة الأممية القضية المطروحة على وجه التحديد. فبقدر ما هي غير مقيدة بمجال أو حد تفرضه السياسة الوطنية، فهي غير مسؤولة أمام أي شخص أو جهة. وعلى هذا، فعندما ينهار النظام الدولي، يستطيع القوميون أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم البديل الوحيد.

 

بسبب هذه الديناميكية، لا يجد اليسار نفسه أمام عدد كبير من الخيارات الجيدة. فلم يعد بإمكانه استغلال العداء الشعبي ضد المهاجرين واللاجئين أكثر مما يستطيع الوسط الليبرالي أن يستغله. ومن ناحية أخرى، إذا حاول اليسار أن يبالغ في تصوير فوائد الهجرة، فإنه قد يدفع المزيد من الناس إلى أحضان الأحزاب المعادية للمهاجرين.

 

لا أحد يستطيع أن يعترض على الليبرالية الاقتصادية إذا أوفت الأسواق غير المقيدة بوعدها بتلبية التفضيلات الفردية من خلال تشغيل "اليد الخفية" التي ذكرها جوزيف شومبيتر. والمشكلة، كما فهمها جوزيف شومبيتر، هي أنه حتى لو قامت الأسواق عادة بعملها على النحو المفترض لها، فهي أيضا قد تكون معطلة إلى حد كبير وميالة إلى الانهيار دوريا.

 

فضلا عن ذلك، في حين تجلب الإبداعات التكنولوجية التي تروج لها الأسواق فوائد حقيقية في الأمد البعيد، فإنها تميل إلى ترك قدر كبير من الحطام الاقتصادي والاجتماعي في أعقابها. وإلى جانب هذا فإن اختيارات السوق ليست الهم الوحيد الذي يشغل بال الناس. والحياة التي تمليها الأسواق بشكل كامل تصبح خلوا من أي معنى.

 

يعتقد بعض المعلقين اليوم أننا نشهد المجيء الثاني للفاشية. وأنا شخصيا لا أجرؤ على الخروج بمثل هذه النبوءة. فلم تكن أزمة الركود العظيم قريبة حتى من درجة السوء التي كانت عليها أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أنها لم تأت بعد حرب مدمرة.

 

أستطيع أن أجزم بأن الاقتصاد الرديء يزيد من احتمالات انتقال السياسة الرديئة من الحواشي إلى الاتجاه السائد، كما حدث مع الاشتراكية الوطنية الألمانية في الفترة بين عام 1928 وعام 1930. وتتوقف قدرة الأحزاب السيئة على الوصول إلى السلطة ــ وكيفية استخدامها لهذه السلطة ــ على العديد من العوامل. من المؤكد أن درجة الضائقة المالية مهمة، ولكن من العوامل المهمة أيضا شرعية النظام السياسي الراسخ وقدرته على التكيف، ونطاق توفير الرعاية الاجتماعية، والسياسة الانتخابية، والزعامة السياسية، والسياق الدولي.

 

الواقع أن الصعود السريع للتطرف اليوم لابد أن يخدم كنداء تنبيه وإيقاظ. ويتعين علينا أن نفصل السياسة الليبرالية الجيدة عن الاقتصاد النيوليبرالي الرديء الذي أنتج كارثة عام 2008. وهذا يعني إعادة ذلك النوع من الاقتصاد الذي ساد في الفترة من 1940 إلى 1970، إلى أن اكتسحه الرئيس رونالد ريجان في الولايات المتحدة ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في المملكة المتحدة. وكان فريدريك هايك مخطئا عندما زعم أن الديمقراطية الاجتماعية الكينزية تشكل منحدرا زلقا إلى العبودية. بل هي على العكس من ذلك الترياق الضروري.

 

إن أي اقتصاد جيد في عصرنا لابد أن يؤدي ثلاث مهام: اتخاذ الاحتياطات ضد أي انهيار على مستوى انهيار 2008؛ وحشد استجابة قوية في مواجهة التقلبات الدورية في حالة حدوث أي انهيار؛ والاستجابة للمطالب الشعبية بالعدالة الاقتصادية.

 

على نحو مماثل، يتطلب الحفاظ على السياسة الجيدة اليوم أيضا الاهتمام العاجل بأربعة مواضيع: حدود العولمة على المستويين السياسي والاجتماعي؛ وإضفاء الطابع المالي على الاقتصاد الحقيقي؛ والدور الذي تلعبه السياسة المالية والنقدية؛ وفك الارتباط بين المكافآت والعمل في عصر التشغيل الآلي (الأتمتة) المتسارع.

 

يتعين على أنصار الليبرالية ــ وأولئك إلى يسارهم ــ أن يدركوا أن إهمال هذه القضايا لن يمر دون عواقب جسيمة.

 

المصدر: PS، موقع "اللواء"