باريس ــ لم يحدث قَط منذ الحرب العالمية الثانية أن
كانت أوروبا بهذا القدر من الأهمية الجوهرية. بيد أنها أيضا لم تكن من قَبل قط
عُرضة لمثل هذا القدر من الخطر.
ويشكل خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي
رمزا لكل هذا. فهو يرمز لأزمة أوروبا، التي فشلت في الاستجابة لاحتياج شعوبها
المتمثل في الحماية من الصدمات الكبرى التي تعصف بالعالم المعاصر. كما يرمز للفخ
الأوروبي. لا يتمثل الفخ في كونها جزءا من الاتحاد الأوروبي، بل تجسده الأكاذيب
وانعدام المسؤولية على النحو الذي قد ينتهي إلى تدميرها.
فمن قال للشعب البريطاني الحقيقة حول مستقبلهم
بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ ومن تحدث إليهم حول خسارة القدرة على الوصول إلى
السوق الأوروبية؟ ومن ذَكَر المخاطر التي تهدد السلام في أيرلندا نتيجة للعودة إلى
الحدود السابقة؟ الواقع أن الانعزالية القومية لا تقدم أي شيء. فهي رفض للواقع دون
تقديم بديل. ويهدد هذا الفخ أوروبا بالكامل: إذ يَعِد المروجون للغضب، بدعم من
أخبار زائفة كاذبة، بأي شيء وكل شيء.
يجب علينا أن نتخذ موقفا ثابتا فخورا وواضحا في
مواجهة هذا التلاعب والاستغلال وأن نعكف أولا وقبل كل شيء على وضع تصور لأوروبا
الموحدة اليوم. إن أوروبا الموحدة تمثل نجاحا تاريخيا: المصالحة في قارة مدمرة في
إطار مشروع غير مسبوق للسلام والرخاء والحرية. ولا ينبغي لنا أن ننسى هذا أبدا.
ولا يزال هذا المشروع مستمرا في حمايتنا إلى اليوم. فهل يتسنى لأي دولة أن تعمل
بمفردها في مواجهة الاستراتيجيات العدوانية من قِبَل القوى الكبرى؟ ومن يستطيع أن
يدّعي أنه يتمتع بالسيادة الكاملة بلا منازع في مواجهة العمالقة الرقمية؟
كيف نقاوم أزمة الرأسمالية المالية في غياب
اليورو، الذي يشكل قوة للاتحاد الأوروبي بأكمله؟ تتجسد أوروبا أيضا في آلاف
المشاريع اليومية التي غيرت وجه مناطقنا: تجديد المدارس، وبناء الطرق، والوصول
الذي طال انتظاره إلى الإنترنت العالي السرعة. وهذا الكفاح التزام يومي، لأن
أوروبا، مثلها في ذلك كمثل السلام، لا يمكن التعامل معها أبدا على أنها أمر مسلم
به. وأنا ألاحق بلا كلل أو ملل باسم فرنسا هدف دفع أوروبا إلى الأمام والدفاع عن
نموذجها. وقد أثبتنا أن ما قيل لنا أن تحقيقه مستحيل هو في حقيقة الأمر ممكن:
إنشاء قدرات دفاعية أوروبية وحماية الحقوق الاجتماعية.
بيد أننا في احتياج إلى بذل المزيد من الجهد
وبوتيرة أسرع، لأننا نكاد ننزلق الآن إلى فخ آخر: فخ الوضع الراهن والاستسلام. في
مواجهة أزمات كبرى تجتاح العالَم، كثيرا ما يسألنا المواطنون: "أين أوروبا؟
وماذا تفعل أوروبا؟ لقد تحولت أوروبا إلى سوق بلا روح في أعينهم.
غير أن أوروبا ليست مجرد سوق. صحيح أن السوق
مفيدة، ولكن لا ينبغي لها أن تنتقص من الحاجة إلى الحدود التي تحمي والقيم التي
توحد. والقوميون مضللون عندما يزعمون أنهم يدافعون عن هويتنا بالانسحاب من أوروبا،
لأن الحضارة الأوروبية هي التي توحدنا وتحررنا وتحمينا. لكن أولئك المتقاعسين عن
تغيير أي شيء مضللون هم أيضا، لأنهم ينكرون المخاوف التي تستشعرها شعوبنا، والشكوك
التي تقوض ديمقراطياتنا. نحن نعيش لحظة محورية لقارتنا، لحظة نحتاج فيها معا إلى
إعادة اختراع هيئة حضارتنا سياسيا وثقافيا في عالَم متغير. إنها لحظة التجديد
الأوروبي. وعلى هذا ففي مقاومة إغراء العزلة والانقسامات، أقترح أن نعمل على بناء
هذا التجديد معا حول ثلاثة طموحات: الحرية، والحماية، والتقدم.
الدفاع عن حريتنا
يقوم النموذج الأوروبي على حرية الإنسان وتنوع
الآراء والإبداع. وأول حرياتنا هي الحرية الديمقراطية: حرية اختيار قادتنا بينما
تسعى قوى أجنبية إلى التأثير على تصويتنا في كل عملية انتخابية. وأنا أقترح إنشاء
هيئة أوروبية لحماية الديمقراطيات، والتي تعمل على تزويد كل دولة بين الدول
الأعضاء بخبراء أوروبيين لحماية عملياتها الانتخابية ضد الهجمات السيبرانية
والتلاعب. وبنفس روح الاستقلال، ينبغي لنا أيضا أن نحظر تمويل الأحزاب السياسية
الأوروبية من قِبَل قوى أجنبية. وينبغي لنا أن نجعل القواعد الأوروبي تلفظ وتدين
كل تحريض على الكراهية والعنف من الإنترنت، لأن احترام الفرد هو حجر الأساس الذي
تقوم عليه حضارتنا التي تتسم بالكرامة.
حماية قارتنا
يبدو أن الاتحاد الأوروبي، الذي تأسس على المصالحة
الداخلية، نسي أن ينظر إلى حقائق العالَم. ومع ذلك لن يتمكن أي مجتمع من خلق حِس
الانتماء إذا لم يكن لديه حدود يحميها. الحدود هي الحرية في ضمان الأمن. وعلى هذا
فإننا في احتياج إلى إعادة النظر في منطقة شنجن: فكل من يرغب في أن يكون جزءا منها
يتعين عليها أن يلتزم بواجبات المسؤولية (ضوابط حدودية صارمة) والتضامن (سياسة
موحدة للجوء في ظل نفس قواعد القبول والرفض). سوف نحتاج إلى قوة موحدة مشتركة
ومكتب لجوء أوروبي، والتزامات صارمة في ما يتصل بالرقابة والتضامن الأوروبي الذي
تساهم فيه كل دولة تحت سلطة المجلس الأوروبي للأمن الداخلي. أما عن قضية الهجرة،
فأنا أؤمن بأوروبا التي تحمي قيمها وحدودها.
ويجب أن تنطبق نفس المعايير على الدفاع. في
العامين الأخيرين، تحقق تقدم كبير، ولكن يتعين علينا أن نحدد مسارا واضحا: إذ
ينبغي لمعاهدة دفاعية أمنية أن تحدد التزاماتنا الأساسية بالتعاون مع منظمة حلف
شمال الأطلسي وحلفائنا الأوروبيين: زيادة الإنفاق الدفاعي، وإضافة فقرة قابلة
للتطبيق الفعلي للدفاع المشترك، مع إشراك المملكة المتحدة في مجلس الأمن الأوروبي
للمشاركة في إعداد قراراتنا الجماعية.
ينبغي لحدودنا أن تضمن أيضا المنافسة العادلة.
فأي قوة في العالَم قد تقبل استمرار التجارة مع أولئك الذين لا يحترمون أيا من
قواعدها؟ ولا يمكننا أن نعاني في صمت. فنحن في احتياج إلى إصلاح سياسة المنافسة
وإعادة تشكيل سياستنا التجارية مع نظام للعقوبات أو فرض الحظر في أوروبا على
الشركات التي تهدد مصالحنا الاستراتيجية وقيمنا الأساسية مثل المعايير البيئية،
وحماية البيانات والسداد العادل للضرائب؛ وتبني التفضيل الأوروبي في الصناعات
الاستراتيجية ومشترياتنا العامة، كما يفعل منافسونا الأميركيون والصينيون.
استرجاع روح التقدم
الواقع أن أوروبا ليست قوة من الدرجة الثانية.
بل تمثل أوروبا في مجملها قوة طليعية: فقد عملت دوما على تحديد معايير التقدم. وفي
هذا الصدد، يتعين على أوروبا أن تدفع إلى الأمام مشروع التقارب بدلا من المنافسة:
فأوروبا، حيث نشأ نظام الضمان الاجتماعي، تحتاج إلى تقديم درع اجتماعية لكل
العمال، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وضمان نفس الأجر في نفس محل
العمل، والحد الأدنى للأجور الأوروبية المناسب لكل دولة ومناقشته بشكل جماعي كل
عام.
كما تتعلق العودة إلى المسار الصحيح نحو التقدم
بقيادة القضية الإيكولوجية. فهل نتمكن من النظر في أعين أبنائنا إذا لم نعمل أيضا
على التعامل مع ديون المناخ؟ يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يحرص على تحديد أهدافه
ــ التخلص من الكربون تماما بحلول عام 2050 وخفض استخدام المبيدات الحشرية إلى
النصف بحلول عام 2025 ــ وتعديل السياسات بما يتماشى مع تدابير مثل إنشاء بنك
المناخ الأوروبي لتمويل التحول الإيكولوجي، وتأسيس هيئة تضمن سلامة الأغذية
الأوروبية وتحسين الضوابط الغذائية ومواجهة التهديد المتمثل في جماعات الضغط،
والتقييم العلمي المستقل للمواد الخطرة الضارة بالبيئة والصحة. وينبغي لهذه
الحتمية أن توجه تصرفاتنا كافة: من البنك المركزي الأوروبي إلى المفوضية
الأوروبية، ومن الميزانية الأوروبية إلى خطة الاستثمار في أوروبا. ويجب أن تعتبر
جميع مؤسساتنا قضية المناخ تفويضا لها.
يتعلق التقدم والحرية بقدرة المرء على العيش من
عمل يديه: ويجب على أوروبا أن تنطلق إلى الأمام لخلق فرص العمل. ولهذا السبب فإنها
لا تحتاج فقط إلى تنظيم عمالقة التكنولوجيا الرقمية العالمية من خلال فرض الأشراف
الأوروبي على المنصات الرئيسية (عقوبات فورية للمنافسة غير العادلة، والخوارزميات
الشفافة، وما إلى ذلك)، بل تحتاج أيضا إلى تمويل الإبداع من خلال إعطاء مجلس
الإبداع الأوروبي الجديد ميزانية لا تقل عن مثيلتها في الولايات المتحدة من أجل
قيادة الاختراقات التكنولوجية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي.
كما يتعين على أوروبا المتوجهة نحو العالَم أن
تنظر إلى أفريقيا، التي ينبغي لنا أن ندخل معها في ميثاق من أجل المستقبل، وأن
نسلك نفس الطريق، فنساند بطموح ومن دون نزعة دفاعية التنمية الأفريقية بالاستعانة
بتدابير مثل الاستثمار، والشراكات الأكاديمية، والتعليم للفتيات.
الحرية والحماية والتقدم. يتعين علينا أن نعمل
على بناء التجديد الأوروبي على هذه الركائز. ولا يجوز لنا أن نترك القوميين الذين
لا يملكون أية حلول يستغلون غضب الناس. ولا يمكننا أن نسير نياما عبر أوروبا
المتضائلة. ولا يجوز لنا أن نرتكن إلى العمل كالمعتاد والتمني. إن الحركة
الإنسانية الأوروبية تستلزم العمل الجاد. وفي كل مكان، من الممكن أن يمثل الناس
جزءا من هذا التغيير.
وعلى هذا فبحلول نهاية العام، ينبغي لنا أن نعمل
مع ممثلي المؤسسات الأوروبية والدول الأعضاء على تنظيم مؤتمر لأوروبا من أجل
اقتراح كل التغييرات التي يحتاج إليها مشروعنا السياسي، بعقل متفتح، بل وحتى تعديل
المعاهدات. وينبغي لهذا المؤتمر أن يحرص على إشراك مجموعات من المواطنين والاستماع
إلى الأكاديميين وممثلي قطاع الأعمال والعمال، والقادة الدينيين والروحانيين. وسوف
يرسم المؤتمر خريطة طريق للاتحاد الأوروبي الذي يترجم هذه الأولويات الرئيسية إلى
إجراءات ملموسة. وسوف تنشأ خلافات، ولكن هل من الأفضل أن نرى أوروبا الجامدة أو
أوروبا المتقدمة والمفتوحة للجميع، وإن كان بوتيرة مختلفة في بعض الأحيان؟
في أوروبا هذه، تستعيد الشعوب السيطرة حقا على
مستقبلها. وفي أوروبا هذه، أستطيع أن أجزم بأن المملكة المتحدة ستجد مكانها
الحقيقي.
إن مأزق الخروج البريطاني درس لنا جميعا. ويتعين
علينا أن نهرب من هذا الفخ وأن نجعل للانتخابات البرلمانية الأوروبية القادمة
ومشروعنا الأوروبي مغزى واضحا. والآن يتعين على المواطنين الأوروبيين أن يقرروا ما
إذا كانوا يريدون أوروبا وقيم التقدم التي تجسدها أن تصبح أكثر من مجرد حدث عابر
في التاريخ. هذا هو الاختيار الذي أقترحه: أن نعكف على رسم خريطة طريق مشتركة
للتجديد الأوروبي.
المصدر: PS،
موقع "اللواء"