بيروت - لبنان

بوابة العالم

1 تشرين الثاني 2019 11:16ص حكم الإيديولوجية الجديد في روسيا

حجم الخط

موسكو ــ لفترة طويلة، كانت "البوتينية" موضوعا ساخنا في الغرب، حيث قوبل المصطلح ــ الذي يصف سياسات وممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ــ بمزيج من الخوف والرفض في عموم الأمر. ولكن بين المنتمين إلى النخبة الحاكمة في روسيا، يُنظَر إلى البوتينية على أنها إيديولوجية معقدة وجذابة ــ وقد تدوم طويلا بعد رحيل من حملت اسمه.

الواقع أن الإيديولوجية التي تحمل اسم بوتن ليست من بنات أفكار الرئيس بقدر ما ترتبط بمساعده المقرب فلاديسلاف سوركوف. فبصفته كبير "المنظرين الإيديولوجيين" في الكرملين، يُعَد سوركوف تجسيدا عصريا للازار كاجونوفيتش، أحد المساعدين المقربين من جوزيف ستالين والنصير البارز لفكرة الاستعاضة عن اللينينية بالستالينية الأكثر "تقدمية" كحجر زاوية إيديولوجي للاتحاد السوفيتي.

مؤخرا، وصف سوركوف البوتينية بأنها "إيديولوجية فاعلة في الحياة اليومية، مع كل إبداعاتها الاجتماعية وتناقضاتها المثمرة". من منظوره ، لا يحتاج الروس إلى الديمقراطية على النمط الغربي، لأن بوتن شيد نظاما يفهم أبناء شعبه ــ احتياجاتهم، ورغباتهم، وأغراضهم ــ على نحو أفضل من فهمهم لأنفسهم.

على نحو مماثل، يوافق الفيلسوف الفاشي الـمُجاز من الكرملين ألكسندر دوجين على أن البوتينية ناجحة بسبب أسسها الإيديولوجية. الواقع أن دوجين، المدافع الرئيسي عن الرجعية السوفييتية التي دعمت ضم روسيا غير المشروع لشبه جزيرة القرم في عام 2014، كثيرا ما زعم أن الإيديولوجية تشكل عنصرا أساسيا في بقاء الدولة الروسية، خاصة وأن بنية السلطة الروسية الرأسية تفتقر إلى المرونة اللازمة لتحفيز دينامية اقتصادية لا تقل كفاءة عن نظيرتها في الغرب.

وعلى هذا فإن دوجين يزعم أن المفتاح إلى بقاء الدولة الروسية يكمن في قدرتها على الدفع بغاية أعلى. الغاية في حد ذاتها لا تشكل أهمية كبرى: فقد تكون تأسيس نظام ملكي روسي أرثوذكسي، أو استعادة الشيوعية، أو على مستوى الاستراتيجية الكبرى ربما تكون معارضة ما يرى فيه دوجين إمبريالية أطلسية قائمة على البحر في مقابل الأوراسية الجديدة القائمة على الأرض. ما يهم حقا هو أن النظام لديه جوهر إيديولوجي.

الخلاصة في نظر دوجين وسوركوف أن روسيا، مثلها في ذلك كمثل الاتحاد السوفييتي، يجب أن تكون "إيديوقراطية" (نظام حكم يقوم على الإيديولوجيا) تحكمها أقلية مقدسة تدفع البلاد نحو تحقيق هدف ما غير معروف بشكل كامل إلا لهم. وليس من المستغرب أن يتبنى هذا المفهوم الساسة من ذوي الخلفية الأمنية والعسكرية الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "أخوية" من نوع ما ــ أو ما وصفه ستالين بأنه شكل من أشكال "أخوية المبارزين" أشبه بإخوة السيف في ليفونيا.

البوتينية لا تضمن استمرار هيمنة الساسة من ذوي الخلفية الأمنية والعسكرية فحسب؛ بل إنها تحول أيضا دون المساءلة. وإذا كانت الطبقة الحاكمة هي وحدها القادرة على فهم الغاية الأعلى لروسيا، فإن أعضاءها فقط هم القادرون على تقييم أدائهم. وهم يقررون متى يجب إزالة زملائهم أو استبدالهم، وكيف ينبغي استخدام موارد البلاد، بما في ذلك العمالة ــ سواء لتعزيز النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة أو لتوطيد وترسيخ الإيديوقراطية.

في ظل البوتينية، ينبغي للناس أن ينظروا إلى انحدار دخولهم الحقيقة على سبيل المثال باعتباره تضحية ضرورية ــ بل وربما حتى بطولية. وإذا صادر قادتهم معاشاتهم التقاعدية أو زيفوا الانتخابات، فيجب عليهم أن يفترضوا أن هذا يخدم غاية أعلى. بهذا المنطق، تصبح المطالبة بأن تحترم الحكومة حقوقهم الإنسانية بمثابة تحريض على الفتنة والعصيان.

الواقع أن البوتينية الروسية ليست الإيديوقراطية الوحيدة في العالم. فمن الواضح أن دولا مثل كوبا الاشتراكية وفنزويلا "البوليفارية"، وكذا الجمهورية الإيرانية الإسلامية، مؤهلة لحمل هذا اللقب. أما إيديولوجية الدولة في كوريا الشمالية ــ التي تؤكد على أن كوريا الشمالية يجب أن تظل معتمدة على ذاتها بالكامل ومخلصة لزعيم أشبه بالإله ــ فإنها تدعم شرعية دكتاتورية أسرة كيم الوراثية.

الواقع أن التاريخ عامر بالأنظمة الإيديوقراطية، ومن أمثلتها الحديثة البارزة بطبيعة الحال ألمانيا النازية، والاتحاد السوفييتي. وبسبب هذا التاريخ بالتحديد يحظر دستور روسيا إيديولوجية الدولة. ينص الدستور بوضوح على أن الحكومة موجودة لخدمة احتياجات المجتمع، وليس لتعزيز عقيدة بعينها.

بعبارة أخرى، تُعَد إيديوقراطية بوتن في روسيا غير شرعية بوضوح. لكن هذا لن يمنع أنصارها بأي قدر من الفعالية أكثر مما منعت مذكرة بودابست روسيا من غزو شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.

حتى الآن، لم يقدم سوركوف سوى مؤشرات غامضة للمحتوى الإيديولوجي للبوتينية، والتي يقول إنها ستزداد وضوحا من خلال المناقشات الجارية. غير أن المعالم الأساسية يسهل تخمينها. فهي تشمل معارضة الغرب، وتركيبة من الانعزالية والتوسعية العسكرية، والتضحيات المادية من قِبَل الشعب، واضطهاد المعارضين. ورغم أن الدستور يؤكد على الطبيعة العلمانية للحكومة فإن الدين من المحتمل أن يلعب دورا متزايد الأهمية.

إن سوركوف رجل دعاية ذكي، وهو يسوق الحجج الداعمة للبوتينية باستخدام مصطلحات أكثر حداثة وعصرية مقارنة بدوجين الأقدم والأكثر ترفعا على المستوى الإيديولوجي، فيسميها "رفسة للحياة السياسية العالمية". أيا كان ما يعنيه هذا، فهناك أمر واحد واضح: وهو البوتينية لن تكون متوافقة مع حكم القانون ولا آمال الشعب الروسي.

المصدر: Project Syndicate