بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

9 تموز 2019 12:26م دروس من الصراع على قيادة الاتحاد الأوروبي

حجم الخط

برلين ــ ربما كان التشاحن الذي شهدناه بغيضا، لكن المرشحين من قِبَل المجلس الأوروبي لقيادة المؤسسات الحاكمة للاتحاد الأوروبي مبهرون بلا أدنى شك. وإذا حظوا بموافقة البرلمان الأوروبي، فسوف تصبح وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لين رئيسة للمفوضية الأوروبية، ورئيس الوزراء البلجيكي تشارلز ميشيل رئيسا للمجلس الأوروبي، ووزير الخارجية الإسباني جوزيب بوريل ممثلا أعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية. ثم في نوفمبر/تشرين الثاني، من المقرر أن تتولى كريستين لاجارد منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي خلفا ل ماريو دراجي .

الخبر السار هو أن كلا من هؤلاء المرشحين قادر على العمل على تعزيز الاتحاد الأوروبي في وقت يتسم بانعدام الأمن العالمي. أما النبأ المزعج فهو أن الاتحاد الأوروبي ذاته سوف يستمر في مواجهة تحديات كبرى من الداخل. فقد أسفر الصراع على شغل المناصب القيادية العليا إلى استبعاد عملية المرشح الأوفر حظا ــ والتي بموجبها يتولى التجمع الحزبي الأكبر في البرلمان الأوروبي اختيار رئيس المفوضية ــ والعودة إلى إبرام الصفقات من وراء الكواليس، والتي يرى كثيرون أنها عملية غير ديمقراطية. من الأهمية بمكان شرح المبرر وراء هذا التغيير، وإلا فإن مصداقية الاتحاد الأوروبي سوف تتضرر. فقد جرى اعتماد عملية المرشح الأوفر حظا في عام 2014 في التصدي لتصور مفاده أن الاتحاد الأوروبي يعاني من عجز ديمقراطي.

كما كان الصراع على القيادة سببا في احتدام الصدام بين وجهات النظر المتباينة داخل ــ وحول ــ مصادر شرعية الاتحاد الأوروبي. ففي حين تعتقد الدول الأعضاء التي تتمتع بثقافة برلمانية قوية أن اختيار كبار الموظفين لابد أن يستند إلى نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في مايو/أيار، ترى دول أعضاء أخرى (مثل فرنسا) أن الخبرة التنفيذية أكثر أهمية من الارتباط بتلك النتائج. إن ابتكار عملية مقبولة على نطاق واسع لاختيار قادة الاتحاد الأوروبي مسألة تستغرق وقتا طويلا بطبيعة الحال. وعلى الرغم من انتكاسة هذا العام، يجب الحفاظ على مبدأ نظام المرشح الأوفر حظا ودمجه في الانتخابات التالية، مع قوائم عبر وطنية إضافية من المرشحين المدعومين بهياكل حزبية أقوى عبر أوروبا. علاوة على ذلك، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز دور البرلمان الأوروبي.

يشعر عدد من أعضاء البرلمان الأوروبي بخيبة أمل شديدة بسبب فشل المجلس في اختيار أي من المرشحين المعروضين من ذوي الحظ الأوفر، وربما يقررون الإعراب علنا عن إحساسهم بالخيانة من خلال التصويت ضد تعيين أورسولا فون دير لين. وإذا رُفِض ترشحها فمن المحتمل أن يتبع ذلك أشهر من الجمود المؤسسي. وكدليل على حسن النية، ينبغي لها أن تعلن في وقت مبكر أنها ستعمل على تمكين أعضاء البرلمان الأوروبي بحكم الأمر الواقع من تقديم التشريعات. ومع الاتفاق بين المؤسسات مع المفوضية الأوروبية، لن يتطلب مثل هذا التغيير تعديل أي من المعاهدات التأسيسية. علاوة على ذلك، إذا تأكد تعيينها، فينبغي لأورسولا فون دير لين ورئيس البرلمان الأوروبي الجديد ديفيد ماريا ساسولي من الحزب الديمقراطي الإيطالي، أن يعملا على إنشاء علاقة عمل وثيقة كتلك التي كانت بين سابقيهما، جان كلود يونكر و مارتن شولتز . ولكن ينبغي لهما، نظرا للتركيبة الجديدة التي يتألف منها البرلمان الأوروبي، إن يعملا بقوة على إشراك رؤساء كل المجموعات البرلمانية الراغبة في العمل نحو أوروبا الأعظم قوة.

الواقع أن اختيار أعضاء البرلمان الأوروبي ساسولي بدلا من مرشح المجلس، رئيس الوزراء البلغاري السابق سيرجي ستانيشيف، يشير إلى أن انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/أيار أدت إلى تجدد الرغبة في التأكيد على الذات المؤسسية. ومع ذلك، تركت الانتخابات هذه الهيئة أكثر تفتتا من أي وقت مضى. وقد انخفض عدد المقاعد التي تشغلها المجموعتان الحزبيتان الرئيسيتان (حزب الشعب الأوروبي والتحالف التقدمي بين الاشتراكيين والديمقراطيين) من أصل 751 مقعدا في البرلمان، من 404 إلى 336 مقعدا، بسبب المكاسب التي حققها الـخُـضر، والقوميون اليمينيون، والوسطيون الليبراليون.

إن انهيار الائتلافات الكبرى وظهور أحزاب أصغر حجما من شأنه أن يعرقل عملية اتخاذ القرار، كما يتضح بالفعل من فشل البرلمان في الاتفاق على مرشحيه الأوفر حظا. والانقسامات بين المجموعات البرلمانية ليست سياسية فسحب، بل هي جغرافية أيضا. فلا يضم حزب الشعب الأوروبي أي عضو في البرلمان الأوروبي تقريبا من فرنسا أو إيطاليا، في حين يضم وفودا ضخمة من ألمانيا وشمال أوروبا. ويحظى تحالف الاشتراكيين والديمقراطيين بدعم أكبر كثيرا من شبه جزيرة أيبيريا وإيطاليا، مع عدد قليل نسبيا من أعضاء البرلمان الأوروبي من مجموعة جمهورية التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا أو من فرنسا.

يسير التفتت المتزايد في البرلمان الأوروبي جنبا إلى جنب مع العلاقات المتغيرة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. فقد ولت أيام عمل فرنسا وألمانيا يدا بيد؛ وحتى إذا اجتمعا بشأن قضية معينة، فقد تعترض أقليات معرقلة طريقهما في المجلس. وتُظهِر أحدث جولة من المفاوضات على قيادة الاتحاد الأوروبي مدى صعوبة الوصول إلى الأغلبية، ناهيك عن الإجماع. وعلى النقيض من ذلك، تتقاتل الحكومات الوطنية على نحو متزايد التهور في ملاحقة مصالحها. ونتيجة لهذا، ستواجه الدول الأعضاء فرادى الإغراء القوي المتمثل في ملاحقة أهداف بعينها في مجموعات أصغر متماثلة الفِكر. يكمن التحدي إذن في ضمان اتباع مثل هذه المبادرات لعمليات الاتحاد الأوروبي الرسمية، بدلا من اتخاذ القرار بشأنها من خلال الصفقات من وراء الكواليس بين الحكومات.

يشير الإقبال القوي على انتخابات البرلمان الأوروبي إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يفقد الدعم الشعبي. وقد تعزز الوسط السياسي في وقت حيث تكتسب الأحزاب المتشككة في أوروبا والقومية صعودا متزايد داخل الدول الأعضاء. في الإجمال، كانت الثقة العامة في الاتحاد الأوروبي مرتفعة بنفس القدر الذي كانت عليه في ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان التكامل الأوروبي يخدم كمتراس دفاعي ضد الاتحاد السوفييتي. ويرى أغلب الأوروبيين أن الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال يعني شيئا.

لكن نتيجة الانتخابات أشارت أيضا إلى الرغبة في التغيير. فقد تخلى العديد من المواطنين عن الأحزاب التقليدية، وكان الخوف هو الدافع وراء قيام قسم كبير منهم بذلك. مثلهم كمثل الساسة على المستوى الوطني، سوف يكون لزاما على قادة الاتحاد الأوروبي الجدد أن يجيبوا على تساؤلات الناخبين الذين يكنون شكوكا عميقة حول مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. من المفهوم أن يشعر الأوروبيون بالقلق والانزعاج إزاء المنافسة بين القوى العظمى، والتهديدات الأمنية الجديدة، والثورة التكنولوجية التي تهدد بقلب أنظمة اقتصادية ومجتمعات بالكامل رأسا على عقب.

يتعين على الاتحاد الأوروبي، من خلال العمل مع حكومات الدول الأعضاء، أن يستجيب لهذه التحديات بالطموح والعزيمة. وقد وضع المجلس الأوروبي أجندة استراتيجية للفترة 2019-2024، والآن أصبحت الكرة في ملعب البرلمان الأوروبي. فمنذ الانتخابات في مايو/أيار، كان أعضاء البرلمان الأوروبي من المجموعات الحزبية المعتدلة الأربع يتفاوضون على برنامج مشترك للأولويات في ما يتصل بالسياسات. أي أنهم بعبارة أخرى يقدمون الجوهري على الشخصي في الأهمية؛ وبصرف النظر عن من يشغل المناصب القيادية العليا، سيصبح لدى البرلمان الأوروبي بالفعل منصة مشتركة جاهزة. وعلى الرغم من التحايل على عملية المرشح الأوفر حظا، فإن هذا الجهد، مثل قائمة المرشحين الواعدين الذين اختارهم المجلس، يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي يكتسب المزيد من النضج ببطء ولكن بثبات.

المصدر: Project Syndicate