بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

6 آب 2020 07:41ص روبرت فيسك: العالم شاهد النهاية المدمرة لبيروت بعد الخيانة المتكررة

حجم الخط

يعيش كل بلد لحظات في تاريخه تترسخ إلى الأبد. وقد لا تكون تلك اللحظات عبارة عن أسوأ الكوارث التي حلّت بشعب ذلك البلد. وربما لا تكون ذات السمات السياسية الأبرز. لكنها تكون بمثابة صورة للمأساة التي لا تنتهي لمجتمع ما.

تخطر في البال بومبي Pompeii، التي قهر عمل إلهي مفاجئ ثقتها الرومانية وفسادها الإمبراطوري - وكان العمل كارثياً إلى درجة أننا نستطيع بعده وإلى الأبد رؤية دمار مواطنيها وحتى جثثهم.

يحتاج الأمر إلى صورة، إلى شيء يستطيع أن يركز انتباهنا في ثانية فقط على الحماقة التي تكمن وراء مصيبة بشرية. ووفر لبنان للتو تلك اللحظة.

ليست الأرقام ما يهم في ذلك السياق. ولا تشبه معاناة بيروت الثلثاء أبداً أحد حمامات الدماء العابرة خلال حربها الأهلية - ولا الوحشية اليومية في الأغلب في سوريا في هذا الصدد.

وحتى إذا احتُسِبت قتلاها الإجمالية - من 10 إلى 60 إلى 78 في الليلة السابقة ومن المرجح أن تصل إلى المئات اليوم - لن تسجل مستوى مرتفعاً على مقياس ريختر للحروب. ولم تكن كما يبدو نتيجة حتى لعمل حربي، بالمعنى المباشر الذي يقترحه أحد أكثر قادة العالم جنوناً.

إن مجموعة الصور هي ما سيترسخ في الذاكرة - هي وما نعرف جميعاً أن ذلك يمثله. في بلاد بالكاد تتكيف مع جائحة، وعيش في ظل نزاعات (مستمرة)، وتواجه (خطر) المجاعة، وتنتظر الانقراض. لن تُمحَى السحابتان اللتان حامتا فوق بيروت أبداً، اللتان ولّدت إحداهما في شكل مقزز السحابة الوحشية الأخرى.

فالصور المولّفة للنار والرعد والكارثة التي ضمتها مجموعات الفيديوهات الملتقطة في بيروت تتماهى مع لوحات العصر الوسيط التي حاولت أن ترصد، من خلال الخيال لا التكنولوجيا، أهوال الوباء والحرب والمجاعة والموت.

نعرف جميعاً، بالطبع، "الخلفية" المهمة جداً التي لا تكتمل من دونها أي معاناة: بلاد مفلسة تمتلكها منذ أجيال عائلات قديمة فاسدة، وبلاد يسحقها جيرانها، وبلاد يستعبد فيها الغني الفقير، وبلاد تحافظ على مجتمعها الطائفية نفسها التي تدمره.

هل من انعكاس لخطايا هذه البلاد أكثر رمزية من متفجرات سامة مخزنة في شكل غير قانوني في قلب أعظم حواضرها ثم يقول رئيس وزرائها إن "المسؤولين" عن ذلك - ليس هو ولا الحكومة بالتأكيد - سوف "يدفعون الثمن"؟

لم يتعلموا شيئاً بعد، أليس كذلك؟

وبالتأكيد نعرف جميعاً المسار الذي ستتخذه هذه "القصة" في الساعات والأيام المقبلة. ولا شك في أن على نواة الثورة اللبنانية التي أطلقها الشباب والمتعلمون أن تستجمع الآن طاقة إضافية لخلع حكام لبنان، ولمحاسبتهم، ولبناء دولة حديثة جديدة وغير طائفية من أنقاض "الجمهورية" التي أنشأها الفرنسيون ووُلِد الشباب والمتعلمون فيها ولم ترحمهم.

حسناً، إن المأساة بغض النظر عن نطاقها بديل سيء عن التغيير السياسي. لقد شكل الوعد الفوري الذي أطلقه إيمانويل ماكرون وسط نيران الأمس - بأن فرنسا ستقف "دائماً" إلى جانب البلد المشلول الذي أنشأته في غطرسة إمبريالية قبل مئة سنة - مفارقة لاذعة خلال الساعات القليلة الماضية، ليس أقله لأن وزير خارجية فرنسا كان غسل يديه قبل أيام معدودة فقط من الاقتصاد اللبناني.

قبل وقت طويل، في التسعينات، حين كنا نخطط لإنشاء شرق أوسط جديد آخر في أعقاب ضم صدام للكويت، بدأ الضباط العسكريون الأميركيون يتحدثون إلينا (تحدث إلي ثلاثة منهم في شمال العراق) عن "التعب من التعاطف". وعنى ذلك بفظاعة خطر تغاضي الغرب عن المعاناة البشرية.

فقد كان ثمة أكثر مما ينبغي، كما تعرفون، من هذه الحروب الإقليمية، سنة بعد سنة، وستحل لحظة نضطر فيها إلى إقفال الأبواب على الكرم. وربما حلت اللحظة حين بدأ اللاجئون من المنطقة في السير بمئات الآلاف إلى أوروبا، مفضلين مجتمعنا على المجتمع الذي عرضه تنظيم داعش.

لكن فلنعد إلى لبنان، حيث قد يكون التعاطف الغربي ضئيلاً جداً على الأرض. ويمكن دائماً استحضار الزوايا التاريخية لحمايتنا من عصف الانفجارات ومن ثم من السحابة التي تشبه الفطر ومن المدينة المحطمة. يقولون إن بومبي Pompeii كلّفت ألفي قتيل. وماذا عن المكانة الرهيبة لبيروت في التاريخ القديم؟ في عام 551 بعد الميلاد، هز زلزال مدينة بيريتوس، موطن الأسطول الإمبراطوري الروماني في شرق البحر المتوسط، ودمر المدينة كلها، وتسبب وفق إحصائيات ذلك الزمن بمقتل 30 ألف شخص.

ولا يزال في مقدوركم أن تروا الأعمدة الرومانية حيث وقعت، ساجدة اليوم، على بعد نصف ميل (800 متر) تقريباً من موقع انفجار الأمس. وفي مقدورنا أن نلاحظ في شكل قاتم حماقة أسلاف اللبنانيين. فحين انحسر المد، مشوا إلى قاع البحر لنهب السفن الغارقة قبل زمن - ليبتلعهم التسونامي الذي تلا.

لكن هل يستطيع أي بلد حديث - وأستخدمُ الكلمة "حديث" بحذر في حالة لبنان - أن يعيد بناء نفسه في خضم مجموعة كريهة من المحن؟ فعلى رغم أن لبنان تجنب - إلى الآن - الوفيات الجماعية بسبب كوفيد-19، تواجه البلاد وباء بوسائل إسعاف مثيرة للشفقة.

لقد سرقت مصارفه ودائع شعبه، وتثبت حكومته أنها لا تستحق اسمها، ناهيك عن مقوماتها. يقول جبران خليل جبران، أكثر شعراء البلد حدة: "الويل لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد".

من يستطيع اللبنانيون أن يقلدوا الآن؟ من سيختار الطبقة التالية من الثعالب؟ للجيوش سمعة رثة في مجال أداء الدور المخصص للديكتاتوريين العرب، وجرب لبنان الأمر قبلاً في تاريخه وكانت النتائج مثار شكوك.

اليوم، نحن مدعوون إلى اعتبار الانفجار الوحشي مأساة وطنية - وبالتالي يستحق "يوم حداد"، أياً كان معنى ذلك - على رغم أنني سمعت من بين الذين اتصلت بهم في لبنان في أعقابه قلة أشارت إلى أن موقع الانفجار، ومعظم الأضرار، وقعت في ما يبدو في القطاع المسيحي من بيروت. لقد قُتِل رجال ونساء من مختلف المذاهب أمس. لكن ما حصل سيشكل رعباً خاصاً لواحدة من الأقليات الأكبر في لبنان.

في الماضي، وبعد حروب عدة، كان العالم - الأميركيون والفرنسيون وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وحتى إيران - وافق على توحيد لبنان من جديد. وأخرجت الأميركيين والفرنسيين من لبنان تفجيرات انتحارية. لكن كيف لأجانب أن يعيدوا بناء بلد يبدو عصياً على العلاج؟

ثمة غياب للشفافية يشوب البلد، وغياب للمسؤولية السياسية مزمن بما يكفي ليصبح موضة. فأي جريمة سياسية في لبنان - طاولت رؤساء ورئيس حكومة ورئيس حكومة سابقاً - لم تُحَل ألغازها يوماً في تاريخ البلد.

هاكم واحد من أكثر البلدان تعليماً في المنطقة وهو يضم الأكثر موهبة وشجاعة - وسخاء ولطفاً - من بين الشعوب، ويحظى بنعمة الثلوج والجبال والآثار الرومانية وأجود الطعام وأعظم الفكر وبتاريخ يمتد لآلاف السنين. لكنه لا يستطيع أن يدير عملته، أو يوفر طاقته الكهربائية، أو يعالج مرضاه، أو يحمي شعبه.

كيف قُيِّض لألفين و700 طن من نيترات الأمونيوم أن تُخَزَّن في مبنى واهٍ لسنوات كثيرة بعد نقلها من سفينة مولدوفية كانت في طريقها إلى موزامبيق عام 2014 من دون اتخاذ إجراءات أمان من قبل أولئك الذين قرروا ترك هذه المادة القذرة في قلب عاصمتهم؟

وكل ما نناله هو جحيم شاهق وموجة صادمة بيضاء مسرطنة ومن ثم السحابة التي تشبه الفطر (إذا تغاضينا عن الأشياء الأخرى).

هذا هو البديل عن جبران خليل جبران - خاتمة الحروب كلها. هي خاتمة تضم الفراغ الخاص بالخوف الذي يصيب جميع من يعيشون في الشرق الأوسط. وفي شكل مقتضب وفي الشكل الأكثر إثارة للرعب، شاهد العالم هذه الخاتمة.


المصدر: اندبندنت