بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

12 تشرين الثاني 2019 11:10ص صعود القومية بعد سقوط جدار برلين

حجم الخط

برلين ــ كان سقوط سور برلين في ليلة الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1989 على نحو درامي مفاجئ سببا في التعجيل بانهيار الشيوعية في أوروبا. وكان إلغاء القيود المفروضة على السفر بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ضربة قاضية لمجتمع الاتحاد السوفييتي المنغلق. وعلى نفس المنوال، كان ذلك من المعالم المهمة التي بشرت بظهور المجتمعات المفتوحة.

بعد عقد من الزمن، شاركت شخصيا في ما أسميه العمل الخيري السياسي. وأصبحت مدافعا عن مفهوم المجتمع المفتوح الذي تشربت به بفضل كارل بوبر، معلمي في كلية لندن للاقتصاد. لقد علمني بوبر أن المعرفة الكاملة غاية لا يمكن إدراكها، وأن الإيديولوجيات الشمولية، التي زعمت أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، من غير الممكن أن تكون لها الغَلَبة إلا من خلال وسائل قمعية.

في ثمانينيات القرن العشرين، دعمت المنشقين والمعارضين في مختلف أنحاء الإمبراطورية السوفييتية، وفي عام 1984، تمكنت من إقامة مؤسسة في بلدي الأصلي المجر. قدمت هذه المؤسسة الدعم المالي لأي نشاط لم تبدأه دول الحزب الواحد. كانت الفكرة أن تشجيع الأنشطة غير الحزبية من شأنه أن يحمل الناس على إدراك زيف العقيدة الرسمية ــ ونجح الأمر كالسحر. فبالاستعانة بميزانية سنوية قدرها 3 مليون دولار أميركي، أصبحت المؤسسة أقوى من وزارة الثقافة.

أصبحت مدمنا على العمل الخيري السياسي، ومع انهيار الإمبراطورية السوفييتية، أنشأت مؤسسات في البلد تلو الآخر. وقفزت ميزانيتي السنوية من 3 مليون دولار إلى 300 مليون دولار في غضون سنوات قليلة. كانت تلك الأيام مثيرة. وكانت المجتمعات المفتوحة في صعود، وكان التعاون الدولي العقيدة المهيمنة.

بعد مرور ثلاثين عاما، اختلف الوضع تماما. فقد صادف التعاون الدولي عقبات خطيرة على الطريق، وأصبحت القومية العقيدة المهيمنة. وحتى الآن، تبين أن النزعة القومية أقوى وأشد تعطيلا من الأممية.

لم تكن هذه النتيجة حتمية. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة الباقية، لكنها فشلت في الارتقاء إلى مستوى المسؤوليات التي ورثتها بحكم وضعها الجديد. كانت الولايات المتحدة أكثر اهتماما بالتمتع بثمار انتصارها في الحرب الباردة. وفشلت في مد يد العون إلى دول الكتلة السوفييتية السابقة، التي كانت تمر بضائقة شديدة. وبالتالي، التزمت أميركا بوصفات إجماع واشنطن النيوليبرالي.

في ذلك الوقت، شرعت الصين في رحلة النمو الاقتصادي المذهلة، التي باتت ممكنة بفضل انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية ــ بدعم من الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، حلت الصين محل الاتحاد السوفييتي كمنافس محتمل للولايات المتحدة.

افترض إجماع واشنطن أن الأسواق المالية قادرة على تصحيح تجاوزاتها، وإذا لم تفعل، فإن البنوك المركزية تستطيع أن تعتني بالمؤسسات الفاشلة من خلال دمجها في مؤسسات أكبر. كان هذا الاعتقاد زائفا، كما أظهرت الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2008.

كان انهيار 2008 سببا في إنهاء هيمنة الولايات المتحدة العالمية التي لم يكن الشك ليرقى إليها، وتعزيز صعود القومية إلى حد كبير. كما تسبب في تحويل التيار ضد المجتمعات المفتوحة. كانت الحماية التي تلقتها المجتمعات المفتوحة من الولايات المتحدة غير مباشرة دائما وغير كافية في بعض الأحيان، لكن غيابها جعل هذه المجتمعات مكشوفة أمام تهديد القومية. استغرق إدراكي لهذه الحقيقة بعض الوقت، لكن الدليل كان دامغا بما لا يدع أي مجال للجدال. واضطرت المجتمعات المفتوحة إلى اتخاذ موقف دفاعي في مختلف أنحاء العالم.

أود أن أعتقد أن هذا الوضع بلغ الحضيض في عام 2016، مع استفتاء المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بهذا بعد. الواقع أن آفاق المجتمعات المفتوحة تزداد قتامة بفعل التطور السريع إلى حد استثنائي الذي تشهده تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. فهي قادرة على إنتاج أدوات السيطرة الاجتماعية التي يمكن أن تساعد الأنظمة القمعية، لكنها تفرض أيضا خطرا قاتلا على المجتمعات المفتوحة.

على سبيل المثال، شرع الرئيس الصيني شي جين بينج في إنشاء ما يسمى نظام الائتمان الاجتماعي. وإذا نجح في إتمام هذا الأمر، فسوف تكتسب الدولة السيطرة الكاملة على مواطنيها. وما يثير الانزعاج والقلق أن جماهير الناس في الصين تجد نظام الائتمان الاجتماعي جذابا، لأنه يزودهم بالخدمات التي كانوا يفتقرون إليها سابقا، ويعدهم بملاحقة المجرمين، ويقدم للمواطنين دليلا يساعدهم في البقاء بعيدا عن المشاكل. والأمر الأكثر إثارة للانزعاج أن الصين تستطيع أن تبيع نظام الائتمان الاجتماعي في مختلف أنحاء العالم، للطامحين إلى فرض حكمهم الدكتاتوري، والذين يصبحون بعد ذلك معتمدين سياسيا على الصين.

لحسن الحظ أن الصين في عهد شي جين بينج لديها نقطة ضعف: فهي تعتمد على الولايات المتحدة لتزويدها بالمعالجات الدقيقة التي تحتاج إليها شركات الجيل الخامس، مثل شركة هواوي وشركة ZTE. ولكن من المؤسف أن ترمب أظهر أنه يضع مصلحته الشخصية قبل المصالح الوطنية. والجيل الخامس ليس استثناء. الواقع أن كلا من ترمب وشي جين بينج يواجه متاعب سياسية في الداخل، وفي المفاوضات التجارية مع شي جين بينج، وضع ترمب مسألة هواوي على الطاولة: لقد حول الرقائق الإلكترونية إلى أوراق مساومة.

لا يستطيع أحد أن يتنبأ بالنتيجة، لأنها تتوقف على عدد من القرارات التي لم تتخذ بعد. نحن نعيش في أوقات ثورية، عندما يكون نطاق الاحتمالات أوسع كثيرا من المعتاد والنتيجة غير مؤكدة إلى حد أكبر مقارنة بالأوقات العادية. وكل ما يمكننا الاعتماد عليه الآن هو قناعاتنا.

الحق أنني ملتزم بالأهداف التي تسعى المجتمعات المفتوحة إلى تحقيقها، أيا كانت النتيجة، فوزا أو خسارة. هذا هو الفارق بين العمل لصالح مؤسسة ومحاولة كسب المال في سوق الأسهم.

المصدر: Project Syndicate