بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

27 حزيران 2018 12:01م غضب في أميركا

حجم الخط

كثيرون هم من يلومون اليمين المتطرف عن التمرد الشعبوي في الغرب اليوم. فقد فاز اليمين المتطرف بالأصوات من خلال الادعاء بأنه يستجيب لمظالم الطبقة العاملة، في حين كان يعمل على تأجيج الخوف وتعزيز الاستقطاب. ولكن بإلقاء اللوم على القادة الذين استغلوا الغضب الشعبي، يتغافل كثيرون عن قوة ذلك الغضب ذاته، والذي يستهدف النخب التي ارتفعت ثرواتها إلى عنان السماء في السنوات الثلاثين المنصرمة، في حين ظلت ثروات الطبقتين المتوسطة والعاملة راكدة.

ينفذ تحليلان حديثان إلى جوهر هذه القضية، وخاصة في الولايات المتحدة، ولكن أيضا في بقية العالَم. في كتابه الجديد " الانهيار "، يزعم الصحافي ستيفن بريل أن المؤسسات الأميركية لم تعد صالحة لتلبية الغرض منها، لأنها تحمي قِلة من الناس وتترك بقيتهم تحت رحمة سلوكيات جشعة باسم السوق الحرة. ويزعم بريل أن هذا يرجع إلى حكم الجدارة في أميركا: فقد حظي الأفضل والألمع بالفرصة للصعود إلى القمة، لكنهم بعد ذلك سحبوا السلم من خلفهم، مع استيلائهم على المؤسسات الديمقراطية واستخدامهم لها لترسيخ امتيازاتهم الخاصة لأنفسهم.

ويوافق المؤلف ماثيو ستيوارت، زاعما أن "طبقة الجدارة أتقنت الخدعة القديمة المتمثلة في تعزيز وتوطيد الثروة وتمرير الامتياز إلى ذويهم على حساب أبناء الآخرين". ويوضح ستيوارت أن حصة الثروة التي كانت بين أيدي أقل 90% دخلا من السكان في الولايات المتحدة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين بلغت ذروتها بنحو 35%؛ وبعد ثلاثة عقود أصبحوا يمتلكون 20% فقط، مع ذهاب كل ما خسروه تقريبا إلى أعلى 0.1% دخلا. أما الفئة التي تضم السكان الذين ينتمون إلى نسبة الـ 9.9% بين هاتين المجموعتين ــ أو من أسماهم ستيوارت "الأرستقراطية الأميركية الجديدة" ــ فتضم ما كان يسمى الطبقة المتوسطة. في عام 1963، كان لزاما على المنتمين إلى شريحة الأقل 90% دخلا أن يزيدوا ثروتهم إلى ستة أمثالها للوصول إلى مستوى المنتمين إلى شريحة الـ 9.9%؛ وبحلول سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بات لزاما عليهم أن يزيدوا ثرواتهم بنحو 25 ضعفا للوصول إلى ذلك المستوى.

يعمل قسم كبير من سكان الولايات المتحدة بقدر من الجدية أعظم من أي وقت مضى، ومع ذلك فقد عانوا من انخفاض مستويات المعيشة، والذي تفاقم بفِعل المستويات المرتفعة من الديون الأسرية، وفي العديد من الحالات، الافتقار إلى التأمين الصحي. ويستطيع أعلى 10% دخلا بين السكان الوصول بسهولة إلى التعليم العالي الذي من شأنه أن يمكن أبناءهم من الحصول عل نفس الامتيازات التي يتمتعون هم بها؛ أما أقل 90% دخلا فيتعين عليهم أن يبذلوا جهدا أعظم كثيرا لتغطية الرسوم الدراسية التي ارتفعت إلى عنان السماء، وهم يتخرجون عادة وقد أثقلتهم أعباء الدين. كما يتلقى أعلى 10% رعاية طبية من الدرجة الأولى؛ ولا يتمكن المنتمون إلى أقل 90% دخلا من الحصول على مثل هذه الرعاية عادة، أو يتعين عليهم أن يدفعوا ثمنا باهظا للغاية لتأمين مثل هذه الرعاية.

المفترض أن تعمل الضرائب على تمهيد أرض الملعب لصالح الجميع لتحقيق تكافؤ الفرص. لكن الجمهوريين الأميركيين مارسوا الضغوط لفترة طويلة لخفض الضرائب على الأغنياء، بزعم أن خفض ضريبة الدخل الهامشية من شأنه أن يعمل على تعزيز الاستثمار، وتشغيل العمالة، وعجم النمو الاقتصادي، وهذا بدوره يسمح بتقاطر الثروة إلى الأسفل لبقية المجتمع. والواقع أن خفض الضرائب لصالح الأغنياء لا يُفضي إلا إلى تعزيز المزايا التي يحصلون عليها، وتفاقم التفاوت بين الناس.

وما يزيد الطين بلة أن الفقراء يدفعون قدرا أكبر من الضرائب غير المباشرة (على الأرض، والعقارات، والسلع الاستهلاكية)، ويدفع المنتمون إلى شريحة الأقل 20% دخلا أكثر من ضعف ما يدفع المنتمون إلى شريحة الأعلى 1% دخلا من ضرائب الدولة. أضف إلى هذا التحديات التي تفرضها تكنولوجيات الأتمتة والروبوتات، ناهيك عن الكوارث الطبيعية المتزايدة التواتر والحدة، فيصبح من السهل أن نرى لماذا يشعر كثيرون من الناس بالغضب الشديد.

وفقا لستيوارت، يشكل المنتمون إلى شريحة الـ 9.9% "هيئة العاملين الذين يديرون الآلة التي توجه الموارد من أبناء شريحة الـ 90% إلى شريحة الـ 01%، الذين يقبلون بسعادة حصتهم من الغنيمة". لكن التفاوت الذي تعمل هذه الآلة على توليده من الممكن أن يخلف عواقب وخيمة، لأنه يحفز السخط الاجتماعي، وكما نرى في الولايات المتحدة اليوم، يقود إلى صنع السياسات على نحو شاذ وغير مستقر. وكما يزعم المؤرخ الأسترالي والتر شيديل، كان التصدي للتفاوت بين الناس يجري تاريخيا أما من خلال الحرب، أو الثورة، أو انهيار الدولة، أو كارثة طبيعية.

ويتطلب تجنب مثل هذا الحدث الدرامي أن يقوم المنتمون إلى شريحة الـ 10% بعمل أفضل كثيرا لتعزيز مصالح المنتمين إلى شريحة الـ 90% من حيث الدخل، والثروة، والرفاهة، والفرص. ومع ذلك، تسبب مزيج من قِصَر النظر الاقتصادي والاستقطاب السياسي في دفع كثيرين بدلا من ذلك إلى محاولة تحويل الغضب الشعبي نحو المهاجرين، والصين، والتجارة (بما في ذلك التجارة مع الحلفاء المقربين). ونتيجة لهذا، انزلق العالَم بأسره الآن إلى حرب متصاعدة من سياسات الحماية والتي لن يفوز بها أحد.

صحيح أن التناقضات واختلالات التوازن الداخلية كانت تاريخيا تؤدي إلى صراعات بين الدول. لكن هذا ليس حتميا. بل تعتمد النتيجة على جودة القيادة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، نجح جورج واشنطن، وأبراهام لينكولن، وفرانكلين د. روزفلت في تعزيز قوة بلدهم لأنهم أدركوا الحاجة إلى معالجة الانقسامات الداخلية في ضوء القيم الأساسية الأميركية، والموقع العالمي، والأهداف الطويلة الأجل.

وقد استغل الرئيس الأميركي دونالد ترمب الغضب الشعبي لتعزيز مصالحه الخاصة. لكنه لم يخلق ذلك الغضب؛ فقد أنفق أهل النخبة في أميركا عقودا من الزمن في القيام بذلك، فعملوا على خلق الظروف المناسبة لظهور شخصية مثل ترمب. والآن وقد تولى ترمب المسؤولية، فمن المتوقع أن تتدهور أحوال المنتمين إلى شريحة الـ 90%. ولن يفشل نهجه في التعامل مع التجارة بشكل خاص في مساعدة الناس الذين يزعم أنه يمثلهم فحسب؛ بل وسوف يدمر أيضا حس العدالة والرعاية الذي ربط جماهير الناس بزعمائهم تاريخيا.

إن إلقاء اللوم على الغرباء ممارسة مريحة على المستوى السياسي. لكن السبيل الوحيد لجعل أميركا "عظيمة مرة أخرى" يمر عبر معالجة مظالمها الداخلية. ولن تقوم أي تعريفات جمركية على الواردات أو أي جدران حدودية بهذه المهمة.

المصدر: PS، موقع "اللواء"