كوفيد-19 قد أثر سلبا على كل البلدان المتقدمة تقريبا ولكن الحقيقة هي ان مستويات المعيشة في العديد من تلك البلدان كانت في حالة جمود او تراجع منذ سنوات والعديد من المقاييس سلطت الضوء على هذا الاتجاه ولكن ربما المقياس الأكثر دلالة يأتي من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي اشارت الى انخفاض تصل نسبته الى 4% في متوسط الثروة الصافية للأسرة في البدان الأعضاء فيها منذ سنة 2010.
وعليه لم يكن من المستغرب ان الاقتصادات المتقدمة قد شهدت بين فترة وأخرى في السنوات الأخيرة تفجر مشاعر الغضب – من انتخاب دونالد ترامب واستفتاء بريكست سنة 2016 الى احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا والانتخابات الإيطالية والتي أدت لوصول حزبين يعاديان السلطة لسدة الحكم ولكن على الرغم من الاضطرابات فإن التوقعات بانهيار ديمقراطي لم تتحقق بل على العكس من ذلك تمكنت السلطة من ترسيخ نفسها مجددا.
في كل مرة يضع الناس الغاضبون المغامرين السياسيين في السلطة فإن انكشاف حقيقة انه لا توجد لديهم حلول حقيقية لمشاكل الناس تكون مسألة وقت فقط وعليه يجب على المرء ان لا يحلل كثيرا أوجه فشل الحكم الشعبوي علما انه تاريخيا عادة ما يكون الشعبويون أكثر فعالية من خارج السلطة حيث يساهمون في جعل السياسيين من الأحزاب الرئيسية يفكروا مليا بالأسئلة التي يفضلون تجنبها.
حتى خلال الثورات التي بدا وكأنها قلبت جميع المؤسسات رأسا على عقب، غالبا ما أخفت الفوضى استمرارية كامنة. لقد بدأت الثورة الفرنسية بعد عامين من فشل وزير مالية لويس السادس عشر تشارلز الكسندر دي كالون في التخلص من الإعفاءات الضريبية للطبقات التي كانت تتمتع بامتيازات وبعد 60 سنة من ذلك التاريخ خلص الكسيس دي توكفيل الى نتيجة مفادها ان ما بدا وكأنها كارثة سنة 1789 لم تغير في واقع الامر سوى القليل حول كيفية حكم فرنسا.
يبدو ان الثقافة تتغلب على الثورة ففي روسيا استولى البلاشفة على السلطة بهدف متعصب يتمثل في تغيير النظام الاجتماعي القديم وإعادة تشكيل المجتمع ولكن انتهى بهم المطاف الى الحكم بالاعتماد على الحكم التقليدي المتمثل في حكم الفرد المطلق وان كانوا قد استخدموا أساليب قاسية واجرامية خاصة بهم.
لكن بينما غالبا ما تفشل الثورات في احداث التغيير فإن هذا لا يعني انه لا يجب علينا ان نخشاها ففي واقع الامر التكلفة البشرية عادة ما تكون باهظة وحتى لو حدث التغيير المؤسسي المفاجئ بدون عنف فإن من شبه المؤكد ان يلحق الضرر بسبل العيش والرزق مما يعني انه ربما يتوجب علينا الانتباه للمتشائمين من الديمقراطية وخاصة في أوروبا.
ان الحكم المتصلب ومستويات المعيشة التي تعاني من تدهور مزمن قد خلقت الظروف الملائمة لمزيد من التعطيل والاضطرابات وليس سرا ان التقنيات التي حلت مكان العمالة وعولمة العمالة قد افرغت الوظائف التي تدفع رواتب وتتطلب مهارات متوسطة والتي كانت تعكس منذ فترة طويلة مستويات العيش والاستقرار الاجتماعي في الدول المتقدمة ولكن خلال العقد الماضي فلقد تفاقمت هذه المشكلة بسبب القمع المالي وذلك نظرا لوجود مزيج من التقشف المالي ومعدلات فائدة منخفضة تاريخيا.
وفي هذا السياق فإن تزايد أوجه الانقسام المؤسسي ضمن الاتحاد الأوروبي قد خلق شعورا بإن شيء ما سوف ينهار. ان هناك أوجه قوة وضعف في الترتيب الهجين اليوم المتمثل في الفيدرالية (من خلال البنك المركزي الأوروبي) والوطنية العابرة للحدود (من خلال المفوضية الأوروبية) والحكم التقليدي على مستوى الدول وبينما يبدو ان مثل هذا الترتيب يعكس تفضيل معظم الأوروبيين لدرجة محدودة من الحكم المشترك، الا انه يستبعد وجود عمل فعال يتعلق بالسياسات.
انظروا للفشل الذريع في الاتحاد الأوروبي المتعلق بالتطعيم علما انه تعبيرا عن التضامن الأوروبي وافقت بلدان الاتحاد الأوروبي على تفويض المفوضية الأوروبية لتولي اختصاص تلك الدول في هذا المجال حيث كانت النية نبيلة ولكن المفوضية لم تكن مؤهلة لإدارة برنامج مشتريات ضخم يتعلق بالصحة العامة وسرعان ما عملت الجهات التنظيمية بالإضافة الى السياسيين في دول الاتحاد الاوروبي على تقويض تلك الجهود (وثقة الناس ) من خلال تعليق لقاح استرازينيكا مما يعني التدخل في اختصاص الجهة التنظيمية على مستوى الاتحاد الأوروبي وهي ( وكالة الادوية الأوروبية).
في كل مرة تحصل مشكلة فإن الاجماع الساحق هو انه يتوجب على أوروبا وبكل بساطة ان تمضي قدما وان بصعوبة ونادرا ما كانت هناك أي رغبة بتغيير الأشياء سواء من خلال انشاء حكومة أوروبية حقيقية بالقوة المالية اللازمة لمعالجة الأداء الاقتصادي الضعيف أو من خلال التراجع عن عملية الاندماج.
بالمقابل فإن هذا العذاب المؤسسي يجعل أوروبا ابن عم متواضع لاصدقاءها وحلفاءها وبينما ترتفع أسعار الفائدة على خلفية اقتصاد مزدهر نسبيا في الولايات المتحدة الامريكية، سوف يقتصر موقف البنك المركزي الأوروبي على التمسك مجددا بموقفه الذي أصبح مألوفا الان. سوف يؤدي تدفق رأس المال الى أدوات الدولار ذات العوائد المرتفعة الى إضعاف اليورو وسوف تستخدم أوروبا هذا الانخفاض في قيمة العملة لتحقيق أي نمو يمكنها تحقيقه وذلك من خلال الاستفادة من الطلب الخارجي بدلا من تعزيز الطلب المحلي بشكل مادي علما انه حتى لو اثبت المواطنون الأوروبيون استعدادهم لتقبل هذه الأوضاع الصعبة، فإن من غير الممكن ان نتوقع من الولايات المتحدة الامريكية وغيرها ان تتحمل هذا الوضع للأبد.
ان الشلل على المستوى الأوروبي يتناقض مع السياسات ضمن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ففي فرنسا انهارت المؤسسة السياسية بعد عقود من فشل الحكومات المتعاقبة (من اليسار واليمين) بحل عدة مشاكل أساسية، ليس اقلها البطالة المرتفعة جدا ونتيجة لذلك تم استبدال حزبين تقليديين في انتخابات سنة 2017 بحركة واحدة رئيسية بقيادة ايمانويل ماكرون والتي هزمت بسهولة مجموعة منقسمة من المنافسين المناهضين للمؤسسة السياسية القائمة.
لقد اظهر فوز ماكرون ان من الممكن التغلب على انسداد الأفق طويل الأمد على مستوى الدولة ولكن المؤسسة السياسية الفرنسية الجديدة عطلت نفسها منذ ذلك الحين من خلال محاولة تجاوز اليسار واليمين. ان مقولة ماكرون الشهيرة " في الوقت نفسه" أصبحت وكأنها محاولة للحصول على كل شيء باستخدام أساليب متناقضة ومن الأمثلة المألوفة على ذلك هو المأزق الحاصل في إدارة كوفيد-19 فبدلا من ان تختار حكومة ماكرون بين الاغلاق الصارم وبين مقاربة أخف على النمط السويدي فيما يتعلق بالتباعد الاجتماعي، قررت تلك الحكومة الجمع بين إجراءات غير متناسقة من حظر تجول وغيرها من الإجراءات والتي نتج عنها ان الجوانب السلبية من كل مقاربة قد تحققت على الارض.
ان المزيد من التغيير في توجه الناخبين في الانتخابات الفرنسية القادمة – بعد أكثر من عام بقليل – من شأنه ان يعود بالفائدة على المنافس الرئيسي المناهض للمؤسسة السياسية: مارين لوبان من حزب التجمع الوطني الذي ينتمي لأقصى اليمين ولقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة ان ماكرون يتغلب على لوبان بأغلبية بسيطة تصل الى 52% فقط (مقارنة بهامش اثنين الى واحد لصالح ماكرون في سنة 2017) مما يجعل لوبان قريبة جدا من الوصول لقصر الاليزيه.
لكن حتى لو تمكنت لوبين من ان تصدم فرنسا والعالم فإن رئاستها مثل الفترات المؤقتة السابقة من الحكم الشعبوي قد ينتج عنها ضجة أكبر بدلا من سياسات جوهرية وبالإضافة الى المحددات والقيود المتعلقة بها شخصيا فإن الاعتماد المتبادل المؤسسي في أوروبا سيظهر مرة أخرى كعقبة حاسمة في وجه التغيير وخاصة ضمن الاتحاد النقدي. ان على الأرجح ان يستمر الأداء الضعيف المشوش في أوروبا لبعض الوقت في مستقبل الأيام ولكن هذا الاحتمال غير ملهم بقدر ما هو خطير في نهاية المطاف.