بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

12 آب 2020 07:59ص كيف تتجنب أميركا «فخ» ترامب؟

حجم الخط

مع تقدم جو بايدن في استطلاعات الرأي، يتزايد تفاؤل العديد من الديمقراطيين، والجمهوريين الذين لم يؤيدوا ترمب قَـط بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب سيخسر في نوفمبر/تشرين الثاني. ولكن من الخطأ أن نستبعد احتمالات فوز ترمب. يتمتع ترمب بميزات هائلة ستصبح أكثر بروزا مع اقتراب موعد الانتخابات. ولا علاقة لهذه المزايا بإنجازاته أو إخفاقاته، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بإتقانه للمسرح السياسي.

الرأي السائد من منظور الليبراليين هو أن الناخبين الجمهوريين والمستقلين الميالين إلى ترمب عادوا إلى رشدهم بسبب سوء إدارة ترمب لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) والأزمة الاقتصادية التي أطلقت لها الجائحة العنان. لكن هذه قراءة متفائلة للأحداث. فقد فاز ترمب في انتخابات 2016 بتحويل عدم لياقته المهنية والمزاجية للرئاسة إلى فضيلة سياسية. كما أعطاه تحديه للمؤسسة المصداقية بين الناخبين الجمهوريين، الذين اعتقدوا أن ساسة التيار الرئيسي تجاهلوا مصالحهم.

نجح ترمب في تعزيز دعمه من خلال تأجيج المخاوف من اجتياح المهاجرين للبلاد وتهديد هيمنة الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء. وقَـدَّم نفسه كـمُـخَـلِّـص. وكان ذلك كافيا.

مع انحسار الهجرة غير الشرعية عن المخيلة العامة، سعى ترمب إلى إيجاد طرق جديدة للاستفادة من مخاوف الناخبين. وهو يعتقد أنه وجد ضالته في شبح الجريمة الحضرية.

من الواضح أن ترمب يتوقع الاستفادة من المواجهات الفوضوية بين قوات الشرطة والمتظاهرين في مدن أميركا الكبرى. فحتى على الرغم من أن أغلب الأميركيين يتعاطفون مع حركة "حياة السود مهمة"، إذا اعتقد الناخبون أن معدلات الجريمة والفوضى سترتفع (كما حدث في أماكن مثل شيكاغو) وأن أعمال الشغب ستندلع، فإن مخاوفهم ستكون لها الأسبقية على مُـثُــل العدالة الاجتماعية.

يطلب الخائفون الحماية من شخصيات السلطة القوية. ولا توجد شخصية ذات سلطة أقوى من رئيس الولايات المتحدة، الذي يشرف على موارد أمنية ضحمة. لهذا السبب يخشى عدد كبير من المراقبين أن الدافع وراء إقدام ترمب على إرسال قوات فيدرالية شبه عسكرية إلى مدن الولايات المتحدة لم يكن ردع العنف، بل استفزازه.

كما هي الحال مع الهجرة غير الشرعية، حاول ترمب ربط خوف الناس على سلامتهم بمصدر أوسع للقلق يتعلق بالتغير الثقافي. وتماما كما وصف ترمب المهاجرين غير الشرعيين بأنهم مجرمون يهددون القيم الأميركية التقليدية، فإنه يصور المحتجين ومثيري الشغب على أنهم تهديد للثقافة الأميركية والتاريخ الأميركي. إنهم لا يقذفون قنابل المولوتوف وحسب؛ بل يسعون إلى هدم أبطال أميركا.

تعتقد وسائل الإعلام الليبرالية أو تأمل أن يدرك الأميركيون ما تحاول استراتيجية ترمب حجبه وإخفائه، فـيُـحَـمِّـلـونه، وليس المحتجين، المسؤولية عن العنف. ربما. لكن ترمب يسير على خطى ريتشارد نيكسون، ورونالد ريجان، وجورج بوش الأب، وجميعهم استفزوا أو استغلوا مشاعر الخوف من الجريمة الحضرية والانحلال الاجتماعي في طريقهم إلى الرئاسة.

لنتخيل معا أننا بلغنا شهر أكتوبر/تشرين الأول. الآن، نسي الأميركيون سوء إدارة ترمب لجائحة كوفيد-19، التي بدأت تنحسر مع وصول اللقاحات إلى السوق أو ترسخ عادات ارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي ونجاحها أخيرا. وهم لا يبالون كثيرا بوعود بايدن بتحسين الرعاية الصحية، أو معالجة الظلم العنصري، أو تشييد البنية الأساسية، أو إصلاح العلاقات الأميركية مع الحلفاء. إنهم قلقون بشأن معدلات الجريمة المتزايدة الارتفاع، والاحتجاجات التي لا تنتهي، وما يرونه على أنه اعتداء من جانب اليسار على القيم والمؤسسات التقليدية. إنهم يثقون في قدرة ترمب على التصدي للجريمة، ويصدقون تحذيره بأن "جو الناعس" (كما يسمي جو بايدن) سيتجاهل مخاوفهم.

في هذا السيناريو، يستطيع بايدن أن يختار بين ثلاث استجابات. فبوسعه أن يتبع النهج الأخلاقي الأكثر سلامة فيشير إلى أن الجريمة تظل منخفضة بالمعايير التاريخية وأنها مسألة محلية وليست فيدرالية. ويمكنه أن يزعم أن الجريمة نتاج لبؤس الطفولة ومحنتها وأن البرامج الاجتماعية الفيدرالية الجيدة التصميم وإصلاحات الشرطة كفيلة بالتصدي لها. وربما يذكر أيضا أن أعدادا أكبر كثيرا من الناس في الولايات المتحدة لقوا حتفهم نتيجة لاستجابة ترمب الفاشلة لجائحة كوفيد-19، مقارنة بمن ماتوا بسبب جرائم القتل في أي عام عادي.

ولكن في مواجهة زعيم دهماء مثل ترمب، يُـعَـد النهج الأخلاقي مسارا مؤكدا إلى الهزيمة. فلن يرضى الناخبون الخائفون بتحليل إحصائي أفضل أو إصلاحات سياسية تتصدى للتهديد بشكل غير مباشر.

أما السبيل الأقل سلامة فسوف ينطوي على اتجاه دهمائي يساري أو أقرب إلى يسار الوسط. والهدف هنا ليس تفنيد خوف الناس من الجريمة بل إعادة توجيه خوفهم نحو شيء آخر. وبوسع بايدن أن يحاول إثارة الخوف من الشرطة، أو من دولة بوليسية على رأسها ترمب وتديرها ميليشيات فيدرالية شبه عسكرية. أو يمكنه أن يسير على خطى الشعبويين الكلاسيكيين من هيوي لونج إلى هوجو شافيز، فيهاجم الأثرياء وبعبع الشركات كمصدر لكل المشاكل.

لا يستطيع بايدن أن يسلك أي من الطريقين. فلياقته وأخلاقه تمنعه من ذلك: إذ أن إثارة مخاوف الناخبين البدائية تفتقر إلى المصداقية. ولن تنجح مثل هذه التكتيكات. فـقِـلة من الأميركيين يريدون وقف تمويل الشرطة ــ كما أدرك بايدن بالفعل. وبايدن ذاته صنيعة من صنائع المؤسسة، مما يجعل هجومه على الأثرياء مفتقرا إلى المصداقية.

لحسن الحظ، يستطيع بايدن أن يلجأ إلى استراتيجية أفضل: والتي تتلخص في جعل دهمائية ترمب موضوعا لحملته.

كان زعيم الدهماء الأميركي الكبير الأخير السناتور جوزيف مكارثي، الذي فرض نفوذه على السياسة الأميركية من 1950 إلى 1954. اكتسب مكارثي السلطة من خلال العزف على أوتار فشل المؤسسة السياسية المزعوم في مقاومة التهديد السوفييتي والنفوذ الشيوعي. ومثله كمثل ترمب، بنى مكارثي على سجل تجريبي حقيقي وإن كان هزيلا. فبنهاية الحرب العالمية الثانية، أوقفت الجهود الشيوعية لتخريب حكومة الولايات المتحدة. واستنادا إلى المخاوف الشعبية بشأن التوسع السوفييتي، عمل مكارثي على تضخيم التهديد بتوجيه اتهامات كاذبة والتلاعب بالصحافة.

مع ذلك، سقط مكارثي بذات السرعة التي صعد بها (وجه إليه مجلس الشيوخ انتقادات شديدة في عام 1954 ومات مخمورا في غموض عام 1957). وربما ضاق الأميركيون ذرعا بحيله السخيفة: فلم تُـفـض أي من اتهاماته إلى إدانة جنائية واحدة بالتجسس، مما تسبب في تقويض مصداقيته. أو ربما تخطى حدوده عندما هاجم الجيش الأميركي، الذي حظي بقدر أكبر من الثقة بين الأميركيين مقارنة بأهدافه السابقة، والتي شملت وزارة الخارجية وهوليود.

أتت نهاية مكارثي عندما تحداه محامي الجيش جوزيف ولش، الذي هاجم السناتور أثناء جلسة استماع متلفزة لتورطه في ممارسات اغتيال الشخصية بالقذف والتشهير ضد أحد زملاء ولش، الذي وبخ مكارثي وسط تصفيق الحاضرين: "ألم يعد لديك أي قدر من اللياقة يا سيدي؟"

يقدم مصير مكارثي بصيص أمل لبايدن. فربما لم يعد بوسع جماهير الناس في أميركا تحمل أكثر من أربع سنوات من الدهمائية. ويبدو أن العديد من ناخبي ترمب تلقوا رسالة مفادها أنه لا يستطيع أن يقدم لهم الكثير غير الترفيه، وحتى هذا ربما تضاءل بسبب الاعتياد على أساليب ترمب الساخرة التهكمية. والواقع أن ترمب، مثله في ذلك كمثل مكارثي، ربما تخطى الحدود عندما تحدى الجيش: فمن خلال التهديد بنشر أفراد عسكريين في المدن الأميركية، خرق ترمب القاعدة التي تفصل الجيش عن السياسة. وإذا حاول ترمب مرة أخرى توريط الجيش في السياسة الداخلية ــ بعد أن تراجع في الوقت الحالي ــ فيجب على بايدن أن يتحداه لإفساد مؤسسة محترمة.

لكن أفضل استراتيجيات بايدن تتمثل في لفت انتباه الناخبين إلى الأساليب التي استخدمها ترمب في التلاعب بهم واستغلالهم. فقد استغل ترمب، كما فعل مكارثي، الانقسامات بين الأميركيين، وأفسد الحوار العام بأكاذيبه وإهاناته، وهاجم مؤسسات ذات قيمة، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي، والمراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، التي يعتمد عليها الأميركيون. ينبغي لبايدن أن يسأل: "ألم يعد لديك أي قدر من اللياقة يا سيد ترمب؟". السؤال يحمل الإجابة.


المصدر: project syndicate

ترجمة: إبراهيم محمد علي