بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

31 آب 2020 07:57ص نهاية الانتهازية الغربية

حجم الخط

تتصاعد المواجهة بين الصين والغرب على نحو شبه يومي. ويدور الصراع حول التكنولوجيا، والتجارة، والحصة في السوق العالمية، وسلاسل التوريد، لكنه يتعلق أيضا بقيم أساسية. ويشكل هدف فرض الهيمنة العالمية في القرن الحادي والعشرين الأساس الذي تستند إليه هذه المنافسة الاقتصادية الإيديولوجية.

ولكن لماذا يأتي التصعيد الحالي الآن؟ ليس الأمر أن الغرب تكشفت له فجأة الحقائق حول التداعيات المترتبة على صعود الصين. فحقيقة أن الصين نظام دكتاتوري لينيني يتألف من حزب واحد ليست معلومة جديدة، وهي لم تمنع الدول الغربية ــ بقيادة الولايات المتحدة ــ من تعميق علاقاته التجارية والاقتصادية مع الصين على نحو مضطرد منذ سبعينيات القرن العشرين.

على نحو مماثل، رفض قادة الصين لفترة طويلة الانتقادات الخارجية لسجلهم في مجال حقوق الإنسان وقمع الأقليات. وكان تفشي التجسس الصناعي وسرقة التكنولوجيا والملكية الفكرية الغربية من المشاكل الأخرى المعروفة التي تسامح معها الغرب بصورة أو أخرى لعقود من الزمن في مقابل الوصول إلى سوق الصين الضخمة والعمالة المنخفضة التكلفة. وقد ظلت الحكومات الغربية والمستثمرون الغربيون على تفاؤلهم حتى بعد مذبحة ساحة بوابة السلام السماوي (تيانانمن) في عام 1989 في بكين. فما إن انقشع غبار المذبحة اندفعت الشركات الغربية إلى الصين على نحو غير مسبوق.

عبر الأمر برمته، افترض القادة الغربيون أن التحديث والتنمية الاقتصادية من شأنهما أن يقودا الصين في النهاية إلى تبني الديمقراطية، واحتضان حقوق الإنسان، وسيادة القانون. لكنهم كانوا مخطئين. فقد عمل الحزب الشيوعي الصيني على تطوير نموذج هجين جديد للتنمية يتألف من دكتاتورية الحزب الواحد، واقتصاد شديد التنافسية، ومجتمع استهلاكي.

حتى الآن، كان هذا النهج ناجحا للغاية. ففي حين ظلت السلطة السياسية في أيدي الشيوعيين بالكامل، جرى تسليم كل شيء آخر تقريبا إلى قوى الرأسمالية الاستهلاكية المدفوعة بالتكنولوجيا الفائقة. وما كان الاتحاد السوفيتي ليحلم بمثل هذا الإبداع في الاقتصاد السياسي.

كانت النتائج مبهرة ــ وغير مسبوقة على أكثر من نحو. فقد أفلت مئات الملايين من البشر من براثن الفقر المدقع وانضموا إلى طبقة متوسطة صاعدة. قبل جيل واحد فقط، كانت الصين دولة راكدة تكنولوجيا وعلميا. واليوم أصبحت دولة رائدة عالميا في العديد من القطاعات الحيوية التي ستحدد هيئة القرن الحادي والعشرين ــ التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وأجهزة الكمبيوتر الكمومية والفائقة. ومع اقتراب الصين الآن من التفوق على الولايات المتحدة بأشواط في العديد من هذه المجالات، فإنها مسألة وقت فقط قبل أن تصبح صاحبة الاقتصاد الرائد على مستوى العالم بمختلف المقاييس المهمة.

السبب وراء تصاعد المواجهة الصينية الأميركية الآن فقط بسيط نسبيا: فقد أصبحت النهاية قريبة في الأفق بالنسبة إلى الغرب. منذ بداية التصنيع، احتكر الغرب القوة العالمية بشكل فَـعَّـال. ولكن الآن من المنتظر أن تنجح قوة عظمى آسيوية قريبا في إنهاء الهيمنة الغربية كما نعرفها. ولا يتعلق الأمر بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحسب. فسوف يظل التحدي المتنامي للقوة الغربية قائما لفترة طويلة بعد رحيل ترمب، وبصرف النظر عن رحيله أو بقائه بعد شهر نوفمبر/تشرين الثاني .

فبينما ازدادت الصين قوة، أصبحت القوة الغربية أضعف نسبيا. وقد لعبت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 دورا حاسما في تغيير التصورات الصينية والعالمية للنموذج الأميركي. فعلى نحو مفاجئ، أصبحت نقاط الضعف الغربية بادية للعيان. والآن تفضح أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) المزيد من نقاط الضعف وخطوط الصدع الداخلية في أميركا. وسوف تعزز استجابة الولايات المتحدة المتخبطة للجائحة بقوة الانطباع العالمي الذي نقله انهيار 2008، فضلا عن نهجها المرتبك الملتبس في التعامل مع الصين.

لم يتوصل صناع السياسات في الولايات المتحدة بعد إلى الإجماع حول الدور الذي يرغبون في رؤية الصين تضطلع به على الساحة الدولية. يريد كثيرون في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية منع أو تأخير صعود الصين إلى مكانة القيادة الاقتصادية والتكنولوجية. غير أن أوان ذلك ولى وفات. فكيف قد تبدو استراتيجية احتواء موجهة ضد اقتصاد عالمي رائد يضم 1.4 مليار شخص على أية حال؟ من غير الممكن أن تنجح مثل هذه الاستراتيجية دون إلحاق أضرار جسيمة بالجميع إلى جانب الصين.

مع ذلك، من الواضح بذات القدر أن استراتيجية المواءمة والتوفيق والانتهازية الاقتصادية التي ينتهجها الغرب ــ وهو النهج الذي كان غالبا يقترب من السذاجة ــ من غير الممكن أن تستمر. ما العمل إذن؟

بادئ ذي بدء، يتعين على الغرب أن يتخلى عن أوهامه بشأن الصين ــ سواء تلك القائمة على البراعة الاستراتيجية أو تلك التي تقوم على سياسات القوة التي تعود إلى عصر غابر. وسوف يكون لزاما على الغرب أن يجد طريقة للتعايش مع الصين كما هي. وهذا يعني إيجاد مسار بين التملق والمواجهة، على أن تخدم القيم والمصالح الغربية كدليل مرشد.

على سبيل المثال، يجب أن تستمر التجارة مع الصين، ولكن في ظل ظروف جديدة. إن صعود الصين يجبر الدول الغربية على ملاحقة سياسات صناعية خاصة بها. وتتطلب صياغة هذه السياسات اتخاذ القرار بشأن التكنولوجيات التي يمكن مشاركتها وأي الاستثمارات المباشرة التي يجب قبولها من الصين.

سوف يظل الخلاف الجوهري في القيم بين الغرب والصين قائما إلى أجل غير مسمى، وهنا يتعين على الغرب أن يرسم الخط. وأي تنازل ينطوي على التضحية بمبادئ جوهرية، في ما يتصل بأمور ثقافية على سبيل المثال، يجب أن يكون محل رفض. وإذا أسفر هذا النهج القائم على القيم عن خسائر اقتصادية، فليكن. على ذات المنوال، ينبغي للغرب أن يتخلى عن فكرة مغرورة مفادها أنه قادر على دفع الصين، أو إرغامها، أو إقناعها بأن تتحول إلى ديمقراطية على صورتها.

يجب أن تحد القيم المشتركة بين الدول الغربية بالضرورة من نطاق التعاون الجيوسياسي مع الصين، فضلا عن سلوك الصين التوسعي في جوارها، وخاصة في بحر الصين الجنوبي وفي ما يتعلق بتايوان. ولكن عندما يتعلق الأمر بقضايا عالمية مثل تغير المناخ ومنع الأوبئة، سيظل التعاون يشكل فضيلة لا غنى عنها.

في نهاية المطاف، تدور المواجهة الصينية الغربية حول قيم أساسية لا يجوز التفاوض بشأنها. ولكي يتسنى له حماية مصالحه الخاصة والتعايش السلمي في القرن الحادي والعشرين، يتعين على الغرب أن يدرك المصادر الحقيقية الأصيلة لقوته الدائمة وأن يدافع عنها.


المصدر: project syndicate

ترجمة: إبراهيم محمد علي