بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 أيار 2018 08:45ص هل هناك علاقة بين وقوفنا على قدمين وامتلاكنا ذكاءً دون باقي المخلوقات؟

حجم الخط

خلال العصور القديمة، كان تعريف الإنسان في مقابل بقية الكائنات الحية يتمثل بكل بساطة في مسألة وقوفه منتصباً. وكان الفيلسوف أفلاطون، بحسب الأسطورة، يعتقد أن الإنسان هو كائن ذو قدمين ولا يمتلك ريشاً. ولكن وصف الإنسان بأنه كائن بلا ريش في عصرنا الحالي قد يبدو أمراً مستغرباً، وأقل جاذبية من القول بالارتباط الوظيفي بين استخدام القدمين والذكاء العقلي، حسب تقرير لمجلة Nautilus الأميركية .

رأى أفلاطون في غياب أي غطاء للجسم مثل الريش ابتعاداً لهذا الكائن من الجنس الأصلي نحو الجنس البشري، لأنه كان على وعي كامل بأن الحيوان الآخر الذي يملك قدمين هو الطائر. ويمنح الفكر الإغريقي للطيور دوراً في المنتصف بين البشر والآلهة، بما أن الطيور مرتبطة بالآلهة عبر قدرتها على التنجيم والتكهن.

هذه الدجاجة العارية هي إنسان أفلاطون

من أبرز من ردوا على أطروحة أفلاطون الغريبة، الفيلسوف ديوجانس الكلبي، المنحدر من مدينة سينوب التركية، والتي كانت مواقفه تتصف بالسخرية، حيث أنه في واقعة شهيرة، قام بنتف ريش دجاجة (باعتبارها كائناً ذا قدمين)، وحملها إلى أكاديمية أفلاطون، وأعلن أمام الحاضرين "هذا هو إنسان أفلاطون".

ورغم أن ثنائية القدمين قد تبدو بالنسبة لنا أمراً بديهياً في رؤيتنا للجنس البشري، فإن أفلاطون كان أول من استخدم مسألة الوقوف في وضعية الانتصاب، لدفع التفكير المنطقي لنقطة أبعد من مركز النزعة الغريزية في الإنسان وأعضائه التناسلية.

وبحسب أفلاطون، فإن رأس الإنسان هو "الأكروبوليس" (أي الجزء الأعلى المحصن من المدينة الإغريقية)، وبنفس الشكل، فإن الرأس هو الأكثر رفعة من الناحية المجازية والأدبية. أما المدينة بالنسبة للأكروبوليس، فهي كما الجسد المنتصب بالنسبة للرأس. كما يرى أفلاطون أن الجسد المنتصب هو أيضاً يجب أن يحمل الحكمة والنبل (أغاثوسكايسوفس)، في تعارض مع النظرة الإغريقية في العصر السابق له، التي كانت تربط الجسم بفكرة الجمال والطيبة (كالوس أغاثوس). إذ أن هذا المفهوم القديم هو وصف للوقفة العسكرية، بمعنى جسم الجندي وولائه للدولة.

هل يعني وقوفنا منتصبين أننا ننتمي لجنس البشر؟

ويبدو أن هذا التوتر بين التعريف المطلق للوقوف، على غرار التعريف الأفلاطوني، والأطروحة المضادة متمثلة في دجاجة ديوجانس، كانت الأساس لكل النقاشات والجدل الذي دار حول موضوع الوقوف منذ ذلك الوقت، على الرغم من أنه مع مرور الزمن، يبدو أن الأطروحة الثانية هي التي فرضت نفسها. في الواقع، يبدو أن تلك الدجاجة الشهيرة تعيد الظهور في النقاشات المعاصرة حول حدود فئة البشر في فلسفة العلوم، كنموذج غريب ومنفر، حسب تقرير مجلة nautilus الأمريكية.

كيف عادت دجاجة ديوجانس في القرن العشرين؟

وقد قام برتراند راسل بفحص مضامين هذه الأطروحة في إطار علم المنطق الرمزي في بداية القرن العشرين، حيث كتب: إن سقراط، الكائن ذو القدمين وبدون ريش، " يختلف عن سقراط الإنسان، بمعنى أن التعريف الثاني هو الذي يعتبر شاملا، وهو أمر لا يحمله التعريف الأول، الذي لم يعد ممكناً قبول مضامينه الساخرة مع حلول القرن العشرين. يؤكد راسل أن لا أحد في العالم المعاصر يمكن أن يتخيل أن يكون هذا هو التعريف الممكن للجنس البشري.

وبعد ذلك، تطور الجدل حول وضعية الوقوف، بكل جوانبه الأخلاقية والجمالية والفيزيولوجية، ليتخلى عن مناقشة وقوف الدجاجة، ويذهب نحو أمثلة وقياسات أكثر قوة.

وقوف آدم عند اليهود

وبالنسبة لليهود، فإن اتخاذ آدم لوضعية الوقوف، كان دلالة على رفعته وتفوقه على الحيوانات الأخرى التي خلقها الله، حتى بعد طرده من الجنة. وقد تواصل تبني الاعتقاد بأن قوة إلهية هي التي خلقت وضعية الوقوف المميزة للجنس البشري إلى حدود بداية عصر التنوير، عندما أقدم الفيلسوف وعالم اللاهوت يوهان غوتفريد هيردر، في كتابه "أفكار لفلسفة التاريخ الإنساني" (1784-1791)، على تعريف الوقوف لأول مرة على أنه أمر مركزي لتحديد الفرق الجسدي بين الإنسان والحيوان.

ولكن على عكس التقاليد الكلاسيكية، فإن هذا الفيلسوف ناقش هذه المسألة قبل مناقشة المنطق البشري:

"شكل الإنسان هو الوقوف منتصباً، وفي هذه النقطة هو متفرد من بين كل الكائنات فوق سطح الأرض، بما أن الجنس البشري فقط هو الذي يتخذ هذه الوضعية بشكل طبيعي ومتواصل، إذ أن كل العضلات تعمل في هذه الوضعية ومتكيفة معها، حتى أن العضلة الخلفية للساق تضخمت وتحرك الحوض نحو الخلف، والفخذين ممتدين نحو الخارج بعيداً عن بعضهما، والعمود الفقري أقل تقوساً، والصدر أقل اتساعاً، والكتفان مزودان بالترقوة، واليدان فيهما أصابع مزودة بحاسة اللمس، وكتتويج لهذه البنية، هنالك الرأس المرتكز على عضلات الرقبة، ليكون بذلك الإنسان مخلوقاً للنظر إلى ما فوقه وما حوله".

أما فيلسوف علم اللاهوت هيردر فهو لا يقلل من أهمية دور العقل في تحديد الجنس البشري. إذ أنه في تعريفه للعقلانية، يؤكد على أنه قبل الكلام الذي قد يتوقع البعض أنه أول ميزة للبشر، تأتي وضعية الوقوف النبيلة. إذ أن هذه الوضعية هي علامة على إبداع الخالق، الذي كرم الإنسان بالوقوف منتصباً وأمره بأن يقف باستقامة.

يقول هيردر: "عندما انتهت الآلهة الخالقة من أعمالها الشاقة، وأنهت صنع كل الأشكال التي كان يمكن وضعها على سطح الأرض، وقفت متأملة وفحصت أعمالها، وبحنان الأم مدت يدها نحو الأمام إلى آخر مخلوقاتها الفنية وقالت: "قف على الأرض، واستند إلى نفسك، كان مفترضاً أن تكون وحشاً، مثل بقية الوحوش، ولكن من خلال مساعدتي الحانية وعطفي، الآن تمشي منتصباً، وتنتمي للوحوش التي خلقتها الآلهة" هذه الكلمات تجعلنا ننظر بدهشة إلى كيفية تشكل هذه الهيئة التي منحت الإنسان القوة من خلال وضعية الانتصاب، وكيف أن هذه الهيئة بمفردها هي من جعلت البشر بشراً".

وقوف الإنسان على أنها مخلوقة على يد الآلهة وأنها مقدمة على ذكاء الإنسان. حسب تقرير المجلة الأميركية.

الوقوف هو ما يجعل البشر بشراً

هذه الآراء يمكن ملاحظتها في أعمال بدايات العصر الحديث، لدى كل من المفكرين المسيحيين واليهود. إذ أن ميلتون في ملحمته الشعرية "الفردوس المفقود" (1667)، يصور خلق أول إنسان على أنه مخلوق حساس وهبه الإله هدية الوقوف منتصباً.

مخلوق لا يولد
وليس أعجمياً كبقية الحيوانات،
وإنما مزود بقداسة العقل،
قوياً ينتصب بقامته،
ومعتدل الجبهة هادئ
يحكم الجميع، يعرف ذاته،
ومن ثم له نفس عظيمة تتصل مع السماء
وهو صاحب منة يعترف بالخير الهابط عليه،
وإلى هناك بقلبه وصوته وعينيه يتوجه في تقوى
ليعبد ويصلي لله الأعلى
الذي جعله رئيس كل أعماله.

في هذا المقطع، يردد ميلتون صدى سفر أيوب في الإصحاح السادس والعشرين، بمعنى أن الخلق يحدث في اللحظة التي منح فيها الإنسان القدرة على الوقوف مستقيماً بالمعنى الجسدي والمعنى الأخلاقي.
إلا أن إيمانويل كانط حمل آراء معاكسة لفكرة الكمال الإلهي لبنية الإنسان، والنظرية اللاهوتية المرتبطة بذلك. وبالنسبة له، فإن آراء هيردر كانت مجرد أفكار رومنسية وليست مبنية على بحث علمي حول طبيعة البشر ومستقبلهم. إذ أن الكائن البشري ليس كاملاً، بل بحسب فهم كانت للفكر التنويري، يجب أن يمتلك القدرة على التغيير والتبدّل. والجرأة على استخدام عقله دون توجيه من أي شخص آخر، والجرأة على المعرفة، ومن أجل تحقيق ذلك، فإن أهم شيء هو أن يعرف الإنسان ذاته.

هل الإنسان "قطعة خشب معوجة"؟

ذكر كانط في كتابه "فكرة للتاريخ الكوني بأهداف كوزموبوليتانية" أن الإنسان هو نفسه حيوان، وهو يصف الإنسان، حتى في دور السلطة الحاكم، بأنه "قطعة خشب معوجة"، وهو يقول:

"السلطة الأسمى والأعلى في الواقع يجب أن تكون عادلة في حد ذاتها وفي نفس الوقت أن تكون بشرية. ولذلك فإن هذا المشكل هو الأكثر صعوبة على الإطلاق، وبالفعل فإن إيجاد حل كامل له يبدو مستحيلاً، بما أن هذا الإنسان المصنوع من قطعة خشب معوج، لا يمكن أن نصنع منه أي شيء مستقيم".

إن هذه المكابدة الإنسانية هي التي يمكن أن تدفعه ربما نحو عدم الوصول أبداً لتحقيق الاستقامة، وبالتالي الكمال. ويواصل كانط قائلاً: "إن الطبيعة التي تمثل في مخيلتنا صورة الحديقة، هي التي لا تسمح لنا بأكثر من الاقتراب من هذا المثال الأعلى. إن حالة جديدة مبنية على المنطق الذي اكتسبه الإنسان بتعليمه الذاتي، تمثل الغابة التي يتطور فيها هذا الخشب المعوج".

وكل الأعمال الفنية والأدبية التي تمجد الإنسان، وأكثر الأنظمة الاجتماعية جمالاً، كلها ثمار العزلة، التي تعد أمراً لا مفر منه لتحقيق التطور الكامل لبذور الطبيعة.

وكل القيمة مصدرها كفاح الإنسان من أجل تثبيت قدميه في المجتمع (تجدر الإشارة هنا إلى أن غموض عبارتي معوج ومستقيم كمفاهيم أخلاقية تبدو حاضرة أيضاً في أعمال كانط باللغة الألمانية، التي تحفل بالمقارنات بين فكرتي الاستقامة والاعوجاج). وهذه الرؤية لتطور الإنسان وسوء تطوره تأتي في محور رؤية كانت لمسألة الوقوف باستقامة، سواء بالمعنى السياسي أو الأخلاقي.

إذ إن صورة كانط حول الخشب المعوج هي إجابة مباشرة على ادعاءات هيردر حول اعتماد الوقوف في وضعية الاستقامة كتعريف أساسي للطبيعة البشرية. وقد هاجم كانط هذه الفكرة في نقده للمجلد الأول من أفكار هيردر في 1785. وفي ذلك النقد، لخص رواية هيردر حول الوقوف المستقيم كفكرة مركزية في خلق الإنسان الواعي، بالقول:

"إن الإنسان لم يوهب وضعية الوقوف باستقامة لأنه كان مقدراً له أن يكون عقلانياً، بما أن هذه الوضعية تمكنه من الاستخدام العقلاني لأطرافه، بل على العكس من ذلك فإن الإنسان اكتسب العقل كنتيجة لوضعية وقوفه، بما أن ذلك هو التأثير الطبيعي لحاجته إلى المشي منتصب القامة".

وفي معرض الحديث عن حساب الآخرة للمجرمين، يتناول القرآن الكريم‏ ‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏ أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم، التي صدرت عنهم في الدار الدنيا، فارتباط الوقوف بالوقف بالمسؤولية إشارة شبيهة بالعلاقة بين الوقوف والتميز البشري، قال المفسر ابن عباس‏:‏ يعني احبسوهم إنهم محاسبون.

جمال الوقوف البشري

"ولكن في وسط هذه التجمعات المدنية للبشر، تخلق هذه الميول البشرية أفضل التأثيرات، تماما مثل الأشجار في الغابة، وبالتحديد لأن كل شجرة منها تحاول الحصول على أكبر حصة من الهواء والشمس على حساب الأشجار الأخرى، فإنها مضطرة لإطالة نفسها، وبالتالي تحقيق وضعية انتصاب جميلة ومستقيمة، والنمو، وبذلك فإن هذه الأشجار تكون منفصلة عن بعضها ومتحررة، لتمتد أغصانها كما تشاء، وتنمو بكل انحرافاتها وتعرجاتها".

ولكن هيغل يواصل في الاحتجاج بأن الوقوف في وضعية مستقيمة لوحده ليس كافياً لتعريف الدافع الجمالي لدى الإنسان. إذ أن رؤية العالم من وضع مستقيم ليس تعريفاً للجمال، حيث يقول:

"ولكن وضعية الوقوف ليست جميلة في حد ذاتها، بل تصبح كذلك عندما تكتسب حرية التشكل. لأنه في الواقع إذا كان الإنسان بكل بساطة يقف مستقيماً، تاركاً يديه متدليتين وملتصقتين بجسده بشكل متناظر وليستا منفصلتين عنه، بينما تبقى القدمان مضمومتين لبعضهما، هذا يعطي انطباعاً مزعجاً بالتصلب، حتى لو كنا من النظرة الأولى لا نرى إكراهاً على اتخاذ هذه الوضعية. هذا التصلب هو نظام هندسي مجرد، تتخذ فيه الأطراف وضعيات متناسقة مع بعضها البعض، وبالتالي فإننا لا نرى هنا أي دور في اتخاذ القرار للروح من داخل الإنسان، بما أن الذراعين والقدمين والصدر والجذع، وكل الأطراف، تبقى متدلية بالشكل الذي نمت به في جسم الإنسان منذ الولادة، ودون أن يتحول شكلها بقرار من الروح والإرادة والمشاعر (نفس الأمر ينطبق على وضعية الجلوس). ولكن في المقابل فإن الانحناء والجلوس في وضعية القرفصاء لا يعكس فكرة الحرية، لأنها تعبر عن الخضوع والتبعية والعبودية. أما الوضعية الحرة من ناحية أخرى، فهي تتجنب النظام الهندسي المجرد، وتجعل وضعية الأطراف في شكل خطوط، وتجعل إشعاع الجوانب الروحية منبعثا ًمن داخل الإنسان، تماماً مثلما تبدو حالة وشغف الحياة الداخلية في الإنسان متوجهة من الخارج عبر وضعية وقوفه".

الإنسان الحي يقف، والإنسان الميت يرقد

وبالنسبة لمفكري القرن 19، فإن قراءة ما كتبه كانط حول الوقوف جاء ليفسر جوهر الحياة نفسها. ففي 16 كانون الثاني/يناير 1939، ألقى رالف والدو إيمرسون محاضرة حول تعريف الحياة، أمام حضور كثيف في المعبد الماسوني في بوسطن، قال فيها:

"إن الروح لا ترتاح أبداً، فهي في حركة دؤوبة، والروح الحارسة لا تنظر لأحداث الماضي، كما أن الفضيلة لا ذاكرة لها. وهذا هو قانون الإنسان، عليك أن تعيش دون فواصل، إذا قمت بالاتكاء على مجدافك فقد سقطت. الحكيم فقط هو من يفكر الآن ويعيد إنتاج كل تجربته من أجل متطلبات الحاضر، مثل إنسان يقف على قدميه بفضل عملية التحرك الدائم للعضلات وإعادة وملاءمتها للحفاظ على التوازن. وفي المقابل، فإن الجسد الميت أو التمثال لا يمكنه أن يقف في وضعية مستقيمة دون الاستناد على شيء، وبالتالي يجب عليك أن تكون حياً حتى تكون واقفًا".

هنا يبدو تعريف الحياة مرتبطا بوقوف الإنسان، وما أن تنتهي هذه الحياة حتى لا يكون ممكناً الوقوف.

وهذه النظرة اللاهوتية للوقوف على أنها قوة حيوية بالنسبة للإنسان، كما رددها إيمرسون، لم تختف أبداً، وهو ما يظهر في أفكار مدرسة فلسفة الجماليات خلال القرن التاسع عشر. فإنه بالنسبة لجورج ويلهلم فريدريش هيغل، يعتبر الوقوف مركزيا من الناحية الجمالية. وهنا هو يختلف عن كانت، الذي دائماً ما يتطرق لأعماله.