أطلق البابا فرنسيس أمس نداء ملحا بعد وقت قصير من وصوله الى العراق في زيارة تاريخية غير مسبوقة الى بلد دمرته الحروب والنزاعات، قائلا «لتصمت الأسلحة!»، ودعا الى الاستماع الى «من يصنع السلام» وإلى قيام الدولة العادلة عبر تقوية مؤسساتها ومحاربة المصالح الخاصة والخارجية.
وإذ استقبل العراقيون البابا استقبالاً حافلاً من خلال الرقص على الأغاني التراثية والطبول والسيوف، بمشاركة مجموعة من الفرق الموسيقية في حفل الاستقبال قال رأس الكنيسة الكاثوليكية إنه شعر بأن من واجبه القيام بتلك الزيارة «الرمزية»، لأن العراق عانى كثيراً ولفترة طويلة.
وأثناء استعراض البابا لفرق الاستقبال العراقية في المطار توجه باستفسار إلى رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي الذي رافقه من المطار حول رقصة السيوف التي استرعت انتباهه فما كان من الكاظمي إلا أن توقف فوق السجاد الأحمر وشرح له بأنها جزء من التراث الشعبي العراقي قبل أن يكملا طريقهما.
وفي ظل تدابير أمنية مشددة، تنقل موكب بابا الفاتيكان (84 عاما) وحده في طرق فارغة بسبب الحجر الإلزامي الذي فرضته السلطات خلال الأيام الثلاثة التي ستستغرقها زيارته للوقاية من كوفيد-19.
ويحمل البابا خلال زيارته رسالة تضامن إلى إحدى أكثر المجموعات المسيحية تجذرا في التاريخ في المنطقة ويسعى الى تعزيز تواصله مع المسلمين.
وسيعبر الزعيم الروحي لـ1,3 مليار مسيحي خلال زيارته مسافة 1445 كيلومترا في بلد لا يزال فيه الاستقرار هشاً.
ومن أبرز المحطات النجف الأشرف حيث سيلتقي المرجع الشيعي الكبير علي السيستاني (90 عاما) الذي لم يظهر علنا بتاتا.
وفور وصوله، تطرق إلى كل المواضيع الحساسة والقضايا التي يعاني منها العراق خلال لقائه الرئيس العراقي برهم صالح. وقال « لتصمت الأسلحة! ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان! ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام!».
وأضاف «كفى عنفا وتطرفا وتحزبات وعدم تسامح! ليعط المجال لكل المواطنين الذين يريدون أن يبنوا معا هذا البلد في الجوار وفي مواجهة صريحة وصادقة وبناءة».
ودعا البابا إلى «التصدي لآفة الفساد وسوء استعمال السلطة، وكل ما هو غير شرعي» بعد أكثر من سنة على خروج العراقيين بعشرات الآلاف الى الشارع محتجين على الطبقة السياسية الفاسدة في نهاية 2019.
وقال «ينبغي في الوقت نفسه تحقيق العدالة، وتنمية النزاهة والشفافية وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك» من أجل تحقيق الأمن والاستقرار.
وفي إشارة الى المسيحيين الذين يشكلون واحدا في المئة من السكان، شدّد على ضرورة «ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، وأن نؤمن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين»، قائلا «يجب ألا يعتبر أحد مواطنا من الدرجة الثانية».
وسمى الأيزيديين «الضَّحايا الأبرياء للهجمية المتهورة وعديمة الإنسانية، فقد تعرضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني وتعرضت هويتهم وبقاؤهم نفسه للخطر».
وتعرض الأيزيديون للقتل والخطف والسبي والعبودية والاضطهاد خلال سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على أجزاء واسعة من العراق بين 2014 و2017.
وفي بلد يشهد توترات حادة وتبادل رسائل وتصفية حسابات بين قوى خارجية عدة على رأسها الولايات المتحدة وإيران، قال البابا «أتمنى ألا تسحب الدول يد الصداقة والالتزام البناء الممدودة إلى الشعب العراقي، بل تواصل العمل بروح المسؤولية المشتركة مع السلطات المحلية دون أن تفرض مصالح سياسية أو أيديولوجية».
ورحب الرئيس العراقي بالبابا قائلا «فيما يحل بيننا قداسة البابا ضيفا عزيزا كريما»، هناك «فرصة تاريخية لجعلها مناسبة لإعادة التأكيد على قيم المحبة والسلام والعيش المشترك ودعم التنوع» الديني والاجتماعي.
وتابع صالح «مسيحيو الشرق أهل هذه الأرض وملحُها، فلا يمكن تصور الشرق بلا المسيحيين»، مؤكدا أن «استمرار هجرة المسيحيين من بلدان الشرق ستكون له عواقب وخيمة على قدرة شعوب المنطقة نفسها في العيش المشترك».
ثم توجه البابا الى كاتدرائية سيدة النجاة الكاثوليكية التي شهدت في عيد جميع القديسين في تشرين الثاني 2010، عملية احتجاز رهائن نفذها إرهابيون انتهت بسقوط أكبر عدد ضحايا في المجازر التي استهدفت مسيحيي العراق، إذ قتل خلالها 44 شخصا كانوا في الكنيسة وكاهنان وسبعة عناصر أمن.
وقال في الكنيسة في بغداد «نجتمع اليوم في كاتدرائية سيدة النجاة هذه، ونتبارك فيها بدماء إخوتنا وأخواتنا الذين دفعوا هنا ثمن أمانتهم للرب... غاليًا». وأشار الى «وجود دعوى تطويب مفتوحة» لهؤلاء «الشهداء».
والتقى البابا في الكنيسة أساقفةً وكهنة ورهبانًا وراهبات ومعلمي تعليم مسيحي ومسؤولين علمانيين في الكنيسة. وقال لهم «أشكركم... على بقائكم قريبين من شعبكم، وعلى دعمكم له، وسعيكم لتلبية احتياجات الشعب ومساعدة كل واحد على القيام بدوره في خدمة الخير العام. وحثهم على «المثابرة في هذا الاجتهاد».
وسيزور البابا اليوم وغدا النجف وأور وإربيل والموصل وقراقوش.
وسيكتفي جزء كبير من العراقيين بمشاهدة البابا من خلال شاشة التلفزيون، وسيستخدم البابا على الأرجح سيارة مصفحة في تنقلاته على طرق أعيد تأهيلها خصيصاً استعداداً للزيارة، بالإضافة الى مروحية وطائرة خاصة للتنقلات البعيدة سيعبر خلالها فوق مناطق لا تزال تنتشر فيها خلايا لتنظيم داعش الذي أعلنت القوات العراقية الانتصار عليها وتحرير العراق منها منذ 2017.
وستغيب بسبب التدابير الوقائية من وباء كوفيد-19، الحشود التي اعتادت ملاقاة البابا في كل زياراته، مع استثناء خلال القداس الذي سيحييه غدا في الهواء الطلق في إربيل في كردستان بحضور نحو أربعة آلاف شخص حجزوا أماكنهم مسبقا للمشاركة فيه، علما أن المكان يتسع لعشرين ألفا.
وأكدت السلطات العراقية أنها اتخذت كل التدابير الأمنية «برا وجوا».
ويلتقي البابا السيستاني اليوم في منزله المتواضع المكون من طابق واحد.
وسيشارك في وقت لاحق في لقاء يجمع ممثلين عن الأديان والمذاهب المختلفة بمن فيهم الأيزيديون والصابئة.
في المواقف رحب شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، بزيارة البابا فرنسيس إلى العراق.
وقال عبر حسابه الرسمي على «فيسبوك»: «زيارة أخي البابا فرنسيس التاريخية والشجاعة للعراق العزيز تحمل رسالة سلام وتضامن ودعم لكل الشعب العراقي.. أدعو الله له بالتوفيق، وأن تحقق هذه الرحلة الثمرات المأمولة على طريق الأخوة الإنسانية».
(الوكالات)