بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تشرين الأول 2019 06:03ص أهل السُّنَّة يستعيدون الروح وينخرطون في المواجهة مع الثورة

ساحة النور في طرابلس.. وجه الثورة الحضاري ساحة النور في طرابلس.. وجه الثورة الحضاري
حجم الخط
هل ما يجري في لبنان مجرّد تظاهراتٍ إنفجرت عفوياً في وجه وقاحة السلطة بفسادها وإستهانتها بالناس، فيمكن توصيفها على أنها مجرّد هـبّة مطلبية تعكس مقدار الغضب والإحساس بالظلم والإحباط والقهر والرغبة في مواجهة السلطة من منطلقاتٍ آنيةٍ ومن ظروفٍ راهنة، بدون أن تحمل في طياتها أبعاداً عميقة على المستوى الإنساني والإجتماعي والوطني..؟

هل يكفي شـَظفُ العيش وطغيانُ الفساد لإطلاق هذا المدّ البشري المتواصل في الساحات والشوارع منذ أكثر من عشرة أيام، أم أن هناك في قلب هذا الحدث الكبير تحوّلاتٍ عميقةً تتفاعل في الجسد اللبناني وتشكل اليوم محور الإرتكاز في حركة الناس، وهي تصوغ حركتها المتصاعدة وتندفع في تطوير ثورتها المتواصلة..  

هذا السؤال بات طرحـُه اليوم ضرورياً للمساعدة في تظهير العوامل الفعلية والتطورات المختزنة في المجتمع اللبناني بتنوعه الديني والثقافي والإجتماعي، والتي أخرجت هوية جديدة – أصيلة للشعب قوامها الوحدة والإنتماء الوطني والتماسك في وجه قوى عاتية متجذرة في السلطة ومدجّجة بالسلاح.

العنوان العريض لهذه التحولات هو إسقاط الإعتبارات الطائفية والمذهبية والمناطقية، والتوحد في كل الساحات على الإنتماء الوطني وتحت العلم اللبناني، وهذا التوحد أبدعت كل الساحات في تظهيره وعبّرت عنه ببلاغةٍ متناهية. 

ومن عناصر هذا التوحد، التضامن بين الساحات والتكامل فيما بينها. فعندما تتعرض أيّ ساحة للقمع والإرهاب من أحزاب السلطة، أو من إختراقاتٍ لبعض الأجهزة الأمنية، تتداعى سائر الساحات للتضامن والتفاعل ورفع مستوى التعبئة والتعاهد على الصمود والإستمرار..

حصادٌ مبكر

في اللحظات والأيام الأولى كانت الأولوية لتأمين ولادةٍ ميسرة للثورة، فكانت الخطوات عجولة ومتناسقة مع طبيعة الحدث المتسارع، وكانت توجهات الناس محكومة بالإعتراض الحادّ على رموز الحكم، ورفض ركوب الموجة من قبل قوى تتمركز في قلب السلطة وتدعي مناصرة الثورة..

أفرز صمود الشعب في الساحات والشوارع نتائج فورية في الواقع السياسي، فبدا أن أحزاب السلطة عموماً تغرق في إشكالية التعاطي، لأول مرة، مع ثورة تغطي كلّ لبنان وترفع شعار إسقاط الجميع: رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، ملحقاً بها الوزير جبران باسيل.. وعلى رأسها «حزب الله» بإعتباره رأس الأمر في الشأن السياسي، بالنظر للأغلبية النيابية والوزارية التي حققها، وبالنظر لوجود سلاحه وأثره في الحياة السياسية.

لم تجد هذه القوى الوقت بعد لإحصاء خسائرها، لكن الأكيد أنها أصبحت في ضفة ومعظم اللبنانيين في الضفة الأخرى.. 

مفارقاتٌ بين ثورتين

في 14 آذار كانت حركة الشعب اللبناني منطلقة من حدثٍ كبير، هو إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ورغم أنها كانت ثورة ذات عمق وطني، إلا أنها نتيجة الصراع السياسي، إتخذت أيضاً، بعداً طائفياً ومذهبياً، مع خمود المعارضة الشيعية وتمكن «حزب الله» من إستعادة توازنه، فغاب العنصر الشيعي الوازن عن تلك الثورة، رغم وجود نخب ناضلت ولا تزال تناضل ضد سياسات الحزب.

أما في ثورتنا اليوم، فإن المناطق الشيعية شكلت علامة فارقة في التحركات الشعبية وفي مستوى الوعي السياسي والوطني، وهذا ما يكسب الثورة قيمة وطنية كبرى..

ومن مفارقات مرحلة 14 آذار أن الجماهير السيادية كانت تلتقي في ساحات بيروت، ولكنها رغم التقارب الجغرافي لم تحقـّق الخطوات المطلوبة للتواصل بين المناطق وعلى مستوى المجتمع المدني.

أما اليوم، فإن الأحزاب السياسية لم تعد موجودة في حسابات الناس، والمجتمع المدني يتفاعل على إمتداد الساحات، والشباب الثائر يتحرك لصياغة رؤاه وتصوراته وطموحاته، وسط إنفتاحٍ وتفاعلٍ غير مسبوق، لتأمين إستمرار الثورة من جهة، ولتطوير النظرة المستقبلية من جهة أخرى..

عودة الروح إلى أهل السَّنة

إكتشف أهل السَّنة أنهم لا يحتاجون حزباً ولا تياراً يحتكر شعارات العيش المشترك ليترجموا إنتماءهم الوطني، بعد أن كانوا محاصرين بأسوار التطرف وموصومين بالإرهاب. والعجيب هنا أن يكون من يمثلهم في السلطة يطرح أقصى حدود الليبرالية والمدنية، بينما يعجز عن إخراج الحواضر التي يمثلها من دائرة الإستهداف بالتطرف. وهذا الواقع رافق رحلة تيار المستقبل مع المدن السنية منذ العام 2005 وحتى اليوم.

أليس من المفارقة أن يترافق تحرّر طرابلس من أسر صورتها كمدينة تحتضن الإرهاب وإنطلاقها نحو عالمية وطنية الدور وعالمية الرسالة، مع سقوط رمزية هيمنة تيار المستقبل عليها، ليس فقط بتحطيم صور الرئيس الحريري، وإنما بإعتماد المدينة خيار الثورة التي تطالب بإسقاط العهد رئيساً وحكومة ومجلساً نيابياً؟؟

لم يشكل لفظ الجلالة المضيء في وسط ساحة النور عائقاً أمام تدفق أبناء طرابلس والشمال نحو الساحة ليرسموا وجه الفيحاء المتجدّد نوراً وألقاً ودوراً ورسالة..

إكتشف أهل طرابلس أنهم يستطيعون إمتلاك زمام المبادرة، وأن تشويه صورتهم وصورة مدينتهم كان جزءاً من لعبة أحزاب السلطة، التي تتصارع على المكاسب وتتفق على إبقاء المناطق جزراً معزولة لتسهيل سيطرة كل «زعيمٍ» على ساحته وتأمين منع دخول قوى التغيير دائرة الحكم والقرار.

مدن السَّنة: على توقيت الثورة وإنتظاراتها

في قلب هذه التحوّلات اللبنانية، برز ما قدمته المدن والبلدات السنية في الثورة، مما جعلها تتقدم المشهد، وبشكل خاص طرابلس، التي تعرضت لحملات التشويه والتهميش والإفقار بشكل متواصل.. لكنها نفضت عنها غبار تلك المراحل وتصدّرت المشهد الثوري بكلّ عفوية وإندفاعٍ وكفاءة وحكمة..

فهل جاءت مشاركة طرابلس المتقدمة في الثورة مجرد ثورة غضب على ما نالها من إستهداف وتهميش وإفقار وتشويه صورة...؟؟؟

أم أن الوعي السني في «عاصمة السَّنة»، ذهب إلى ما هو أبعد من غضب اللحظة، وأقوى من حبّ الإنتقام وأسمى من الشماتة بالسياسيين؟؟

الواقع أن طرابلس شهدت إرهاصاتٍ مبكرة للثورة، وكانت التحركات في شوارعها تتواصل رغم محدوديتها، ولا شك أن هذه التحركات راكمت وهيـّأت الأجواء لملاقاة حركة الشعب اللبناني بشكلٍ غير مسبوق، ولهذا، فإن لحظة إندلاع شرارة الثورة جاء على توقيت المدينة وإنتظاراتها.

ماذا تغير في الوعي السني؟

1ــ تقدّم الوعي السياسي وتعزيز الهوية الأصيلة: 

مع الثورة لم يعد أهل السَّنة يحصرون قضاياهم بحقوق محدودة ولا بملفات معدودة، كما كان الحال قبل 17 تشرين الأول.. وأصبح وعيهم اليوم مبنياً على حقيقة إيمانهم بالشراكة الوطنية بدون وسطاء السياسة (التقليدية)، وبقدرتهم على التعبير عن مصالحهم وشؤونهم بشكل مباشر، وعلى الوصول إلى حقوقهم كاملة.

2ــ إرتفاع منسوب الروح الوطنية: 

فبعد سنواتٍ عجاف من الإحباط والتراجع في الدور والموقع، إندفع الجمهور السني نحو تأييد الثورة بإعتبارها مدخلاً لإعادة التوازن إلى الحياة السياسية، بعد أن عبثت بها أيادي الطبقة الحاكمة، وحوّلتها «مزرعة» مستباحة من رموز العنصرية والطائفية والفساد. 

3ــ تقدّم الكفاءات المدنية السنية: 

وجد السَّنة أنفسهم أمام فرصةٍ للدخول إلى معترك إعادة بناء الدولة، وتحمل مسؤولياتهم في هذا المجال، والدفع بأكبر عدد ممكن من الطاقات السياسية والأكاديمية والإجتماعية، في خضم إستحقاقات الصمود والتطوير.. لتأخذ مكانها إلى جانب رفاق الثورة على إمتداد ساحات الوطن.

4ــ تطوير الخطاب اليومي

دخلت الثورة ومصطلحاتها وأدبياتها البسيطة والقوية، الحياة اليومية في معاقل السَّنة الكبرى، وتغلغلت في قراهم وحاراتهم، وتأثرت بهذه المصطلحات المناطق الشعبية والأحياء الجديدة، فبات الجميع بهذا المعنى ثواراً، يمارسون ثورتهم على طريقتهم، فخطاب ساحة النور وساحة صيدا، ومنبر بيروت، بات حاضراً على مدار الساعة.

ما هو الأفق؟

الواضح أن مصير أهل السَّنة ومخرجهم المتاح وفرصتهم الحقيقية للنهوض في إطار معادلة وطنية صحيحة، يكمن في نجاح ثورة الشعب اللبناني، لأن المعادلات السابقة سحقتهم وعزلتهم وجعلتهم في آخر ركب الجمهورية..

أهل السَّنة هم أهل الدولة وحماة الكيان، وها هي رسالتهم الآن تخرج من أفواه الملايين: الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إسقاط الظـُلاّم.. الشعب يريد الدولة العادلة، بحرياتها وإنمائها وسيادتها وإستقلالها.

تكتسب الثورة في كل يوم زخماً كبيراً، وتتخذ طرابلس منها موقع القلب، وصيدا موقع الرئة، وبيروت ولو تباطأت إلا أنها حجزت موقعها الذي يليق بها، لتنبض الثورة وتتنفس وتكمل طريقها نحو إسقاط أصنام الظلم والإذلال والإفقار، ولتستعيد كرامة مفقودة لا يمكن تحقيقها إلا بالثورة.