في الأنظمة الطائفية أو المتعددة الطوائف تلعب المرجعيات الدينية دوراً مميّزاً في الحياة العامة، فهي تتربع على قمة الرأس الهرمي للطائفة، وتعتبر الناطق الرسمي للطائفة اتجاه السلطات العامة. في الأنظمة العلمانية لا تتعدّى صلاحية المرجعيات الدينية خارج جماعة المؤمنين الذين يرضخون طوعاً لسلطتها الروحية. كل ما يريده المؤمنون من مرجعياتهم في تلك الأنظمة هو طمئنتهم وإراحتهم نفسياً وإشعارهم بمدى قربهم الى الله، وقد يتعدّاه الى مشاركتهم في النشاطات الاجتماعية والإنسانية داخل الطائفة أو العابرة للطوائف.
في نظامنا اللبناني المتوارث من العهود الإسلامية السابقة، تلعب المرجعيات الدينية دوراً أساسياً في المجتمع، حيث لم يقتصر دور هذه المرجعيات على المطالبة بحقوق مؤمنيها بل تعدّاه الى المطالبة بحقوق أبناء الطوائف الأخرى التي كانت تلجأ إليها بفضل علاقتها مع السلطات الحاكمة. ولعل من الأمثلة البارزةالضاربة في القدم لجوء مسيحيي لبنان الى الإمام الأوزاعي للتوسط بينهم وبين الولاة العباسيين. بل وكانت هذه المرجعيات تتشارك معاً في التوسط للمجموعات الدينية الأخرى أمام السلطات الحاكمة. من قبيل ذلك مشاركة شيخ الإسلام الزنبلي مع البطريرك المسيحي في إسطنبول الذي كانت تربطه به صداقة، بمطالبة السلطان العثماني بعدم إصدار الفرمان بإكراه المسيحيين على دخول الإسلام، واستطاعتهما إقناع السلطان بإلغائه.
المرسوم 18
إذا تجولنا في نصوص المرسوم 18 لسنة 1955 وتعديلاته، سنقف على عدة صلاحيات تعود الى مفتي الجمهورية مرجعية المسلمين في لبنان، من ضمنها ما يخص موضوعنا:
- مفتي الجمهورية اللبنانية هو الرئيس الديني للمسلمين وممثلهم بهذا الوصف لدى السلطات العامة وله ذات الحرمة والحقوق والامتيازات التي يتمتع بها أعلى الرؤساء الدينيين بلا تخصيص ولا إستثناء.
- مفتي الجمهورية هو الرئيس المباشر لجميع علماء الدين المسلمين والمرجع الأعلى للأوقاف الإسلامية ودوائر الإفتاء ويمارس جميع الصلاحيات المقررة له في القوانين والأنظمة الوقفية والشرعية.
- يشرف مفتي الجمهورية على أحوال المسلمين ومصالحهم الدينية والاجتماعية في مختلف مناطق الجمهورية اللبنانية ويجتمع الى المفتين في المحافظات والأقضية كلما دعت الحاجة ليدرس معهم أحوال المسلمين الدينية والاجتماعية في مناطقهم وشؤون الافتاء والأوقاف والعلماء ويصدر إليهم التعليمات المقتضاة.
من خلال هذه الصلاحيات تتمثل مطالب الناس وأعني هنا المسلمين السنّة، بأن يكون مفتي الجمهورية بالقدر الذي تمنحه إياه صلاحياته باعتباره الرئيس الديني للمسلمين والناطق باسمهم وممثلهم لدى السلطات العامة.
واجبات مطلوبة
وللإجابة عن هذا المطلب يجمع المسلمون السنّة بأنه لم تعد دار الفتوى تمارس هذه الصفة التمثيلية التي أرادها المشرع لها حق تمثيل، فمنذ سنين عديدة ورغم مرور لبنان بأزمات كبيرة عصفت بشكل أساسي بالطائفة السنية، وبتموضعها بين سائر الطوائف وفقا لأكثريتها العددية، لم تصدر عن دار الفتوى خطوات تصحيحية ومطلبية، سواء عن طريق التصريحات الإعلامية أو بخطب الجمعة والأعياد والمناسبات الدينية أو بعقد اجتماعات دورية لرؤساء الوزراء أو النواب المسلمين، أو بالاجتماع بالسفراء العرب والأجانب.
إضافة الى تردّي الأوضاع المزرية التي وصلت إليها كافة المؤسسات الدينية والتعليمية والإجتماعية، وفقدان الإرتباط الهرمي بين دار الفتوى وطبقة المشايخ، فتفلت كثير من المشايخ أو من الذين يدّعون انتمائهم لطبقة العلماء من رقابة الأوقاف، وأصبحت لديهم جمعيات وجمهور ينتمي إليهم، إضافة الى دخول بعضهم ميدان التجارة الدينية والقطاع المالي، واستطاعتهم تجميع أموال بمختلف الطرق والهرب بها الى الخارج.
وخلاصة القول بأنه لم يعد لدار الفتوى هذا الدور الريادي الذي كانت تتمتع به أيام المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، بل ولم تستطع هذه القاعدة الخفية والإضطرادية بين موقعي الإفتاء ورئاسة مجلس الوزراء من أن تستمر طويلاً بعد انضواء موقع مفتي الجمهورية في مرتبة دونية عن موقع رئيس مجلس الوزراء، فكانت هذه القاعدة الخفية هي التي تقوم بتدوير الزوايا بين المرجعيتين السياسية والدينية، فكلما ضعف موقع رئيس مجلس الوزراء هبّ لنهضته موقع مفتي الجمهورية، وكذلك العكس صحيح.
موقع المرجعيتين الدينية والسياسية متلازمتان ومتكاملتان وأيهما حاول إضعاف الآخر أصاب المسلمين السنّة الضعف والوهن.
ليس للمسلمين السنّة مطالب من مرجعيتهم الدينية في الوقت الحالي والملحّ جداً سوى إستعادة كرامتهم أولاً وقبل كل شيء.
* قاضي بيروت الشرعي