أرشيف المقالات

صحيح أن الضجيج يدور اليوم حول القطاع المصرفي والمخاوف من أن تشمل العقوبات بنوكاً إضافية. والقلق هنا مبرّر بعد استهداف «جمّال تراست بنك» أواخر الشهر الماضي وإدراجه والشركات التابعة له في لبنان على لائحة العقوبات عقب قرار تصنيفه من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) التابع للخزانة الأميركية بنكاً إرهابياً عالمياً لتسهيله الأنشطة المالية لـ«حزب الله». ورغم أن بيلينغسلي أكد أن لا نية لاستهداف مصارف جديدة، لكنه تحدّث في صفة الحاضر مستخدماً تعبير «في هذه المرحلة» من دون إقفال الباب أمام «احتمال اتخاذ إجراءات مستقبلية». 

والباب المفتوح يفهم معناه جيداً كل المعنيين بالنظام المصرفي، من مصرف لبنان وحاكمه إلى جمعية المصارف والمصارف برمتها. لا يُلوّح بسوطه كيفما كان، إذ لا يتوقع نجاحاً مئة بالمئة في اكتشاف الأموال الملوّثة، لكنها عملية متواصلة تقع على عاتق المصارف المسؤولة عن حماية أموال مودعيها، والتي تعتمد على نظام أو برنامج الامتثال لديها من أجل تحليل المعلومات المتوافرة عن عملائها وتقييم المخاطر وتنقية الحسابات من «الأصول الملوثة» لدى اكتشافها.

في التقييم، نجح «حزب الله» في الالتفاف على العقوبات والولوج إلى النظام المالي العالمي عبر «جمّال تراست بنك»، الذي في رأي بيلينغسلي، حصل نتيجة كذب إدارة البنك على المصرف المركزي، وتلاعبها وخرقها قانون مكافحة غسيل الأموال في لبنان. وهو أمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام. لذا كان صارماً في كلامه على ضرورة القيام بأمرين: الأول، التصفية الجبرية من خلال تعيين مصفّي من قبل مصرف لبنان لضمان فصل أموال المودعين الأبرياء وعودتها إلى أصحابها وتجميد أموال «حزب الله»، منعاً لتسرّبها تحت صيغة «التصفية الذاتية» التي كان أعلن البنك عنها والتي لا تنطبق عليه بعد خضوعه للعقوبات. وقد تم لجهة هذه النقطة تعيين النائب السابق للحاكم محمد بعاصيري. أما الأمر الثاني، فهو إنجاز التحقيق الكامل لتبيان ما إذا كانت قوانين لبنان تعرضت للخرق، وتوضيح الإجراءات المدنية والجزائية التي سيتم تطبيقها في هذه الحالة، ولا سيما بعدما تمّ الإضرار بسمعة القطاع المالي في لبنان وهدّد صدقيته. 

ستكون المصارف كثيرة الحذر، قليلة المخاطرة، غير قادرة على التواطؤ حتى لو أرادت لأن الكلفة ستكون مرتفعة وكارثية.  وسيشكل الهاجس الدائم الذي يعتريها من السقوط رادعاً ذاتياً في الامتثال إلى أقصى الدرجات. 

الضغوط المالية لديها نتائج إيجابية، يؤكد بيلينغسلي، الذي ستستمر إدارته في ممارسة شتى الضغوط عبر مختلف القنوات لحرمان «حزب الله» من الأموال التي يحتاجها للانخراط في الأعمال الإرهابية سواء في لبنان أو المنطقة أو حول العالم، وهذا يستدعي الانتقال إلى مستويات جديدة وقنوات أخرى خارج النظام المصرفي.

فالسقف الكلامي العالي الذي استخدمه الموفد الأميركي حيال دعوة الأطراف السياسية إلى أخذ مسافة  عن «حزب الله»  الذي تحوّل سرطاناً ينخر الجسم اللبناني وضرورة استئصاله، واللهجة الصارمة بأن العقوبات ستطال كل من يقدم دعماً عينياً لحزب الله، بصرف النظر عن انتمائه الطائفي او السياسي، وأن ذلك يشمل في بعض الظروف الدعم السياسي، أدخل البلاد في حلقة جديدة من الضغوط التي تتعدى الحزب إلى كثير من القوى السياسية الحليفة، وإلى قطاعات التجار والصناعيين الذين أصبحوا في مرمى الاستهداف، فضلا عن شرائح اجتماعية عديدة نسجت علاقات مصالح مع الحزب. 

لا يخفي الأميركيون ان استخدام كافة الضغوط السياسية والمالية على لبنان إلى دفع كافة الاطراف السياسية للاجتماع على رفض المخطط الايراني الذي ينفذه حزب الله والهادف إلى تقويض المرتكزات الديمقراطية في لبنان، وإلى تقويض النظام. قد يكون ذلك مكلفاً على لبنان مع ازدياد حجم الانهيار الاقتصادي في البلاد، لكنه يبدو أن الوسيلة الأقل كلفة على واشنطن وحلفائها لمنع مزيد من إنزلاق لبنان إلى الفلك الإيراني بعدما فقدت القوى السياسية التي كانت تنضوي في إطار القوى الاستقلالية مناعتها وقدرتها على تحييد لبنان جراء انخراطها في تسوية أسهمت في اختلال موازين القوى في لبنان وإلى إحكام الحزب سيطرته على مفاصل الدولة، مستفيداً من حجم التمويل الذي كان يتلقاه من إيران والذي يصل إلى 700 مليون دولار فضلا عن شبكات تبييض الأموال والتجارة غير المشروعة التي يقوم بها في دول المثلث الأميركي وفي أفريقيا وامتدادها حتى إلى دول عديدة في أوروبا. 

وخنق تمويل الحزب عبر القنوات الأخرى يضع الدولة اللبنانية أمام امتحان عسير، إذ أن بيلينغسلي ينتظر من الحكومة والمؤسسات والأجهزة أن تتخذ إجراءات جدية لجهة ضبط المرافىء والمطار والحدود البرية لمنع عمليات تهريب الحديد والدواء تحديداً من إيران لتوفير مصادر تمويل لها، وإلى منع حرمان الدولة من الإيرادات الجمركية.

 كيف يمكن التأثير في بيئة حزب الله؟ المواجهة؟ يرد الموفد الأميركي على محاوريه في لقاء في السفارة الأميركية: نستطيع العمل عبر مكافحة الفساد، وعبر تشجيعهم على الانخراط في المشاركة الديموقراطية، وتنمية الاقتصاد ومنح الناس بدائل لحياة أفضل بدلاً من التحاقهم بمجموعة إرهابية او ارسالهم لقتل الابرياء في سوريا، او للقتال في اليمن. وطالما ان الحزب لن يستطيع دفع الرواتب ومنح التقديمات التي اعتاد عليها، فذلك سيكون جيداً لأنه يمنح اللبنانيين خيارات افضل أخرى، وفرص أخرى للعيش  والعمل بحيث لا يكونون مضطرين للتعاون والانخراط في هذه المنظمة الإرهابية.