بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 نيسان 2020 08:08ص إعادة بناء التوازن الكونيّ بين الفناء والبقاء!

من جائحة روديسيا إلى هلوسة ترامب

حجم الخط
في الطريق من عائشة بكار إلى شارع الاستقلال بين الزيدانية والظريف، امتداداً إلى كركول الدروز باتجاه الضناوي، والبسطة التحتا وخندق الغميق، وسائر الشوارع والاحياء الموازية أو المتفرعة أو المتصلة، يكاد المشهد، أشبه بسحر لحظة الغروب خلال شهر رمضان المبارك.. سيّارات مسرعة، بقايا أناس تأخروا بفعل الإهمال أو الانشغال، ودراجات نارية توصل بعض من حلوى أو طعام على طريقة (Delivery) إلى طالبيها في المنازل.

بقوة إجراءات التعبئة الرسمية، ينضبط الشارع، قبل ان تمر من المحلات، سيّارات الحرس البلدي أو قوى الأمن الداخلي، أو بعض آليات الجيش اللبناني، في إطار دوريات «لَمّ النّاس إلى منازلهم»، لا لشيء بل لأن هذه القوى مُكلفة بتطبيق إجراءات منع التجوّل من السابعة مساء حتى الخامسة صباحاً، كخطوة مرشحة إلى الانتقال ليلاً نهاراً، ما لم يرعوِ جمهور، موزع بين اليأس، والإيمان القدري، أو اللامبالاة، ينفلت من «السجن الكبير»، ويخرج إلى الشارع، سواء أكان مشمولاً بأحقية الخروج للعمل أو التبضع أو ما شاكل أو لأنه اقوى من القدر ومِن كورونا، ومن كل فايروسات الأرض المتكونة طبيعياً أو المصنعة، على طريق التلاعب البشري، بعناصر المادة، أو التوازنات بين قوة الهواء والغذاء، أو بين الطاقة والطاقة على احتمال ما صنعت يد البشر من مركبات تبث السموم الغازية كثاني أوكسيد الكربون Co2 أو تعبث في الحياة في المدن التي شكلت شبكات حضرية (metropolitan web)، تحوّلت مع الوقت إلى شبكة كونية (Cosmopolitan web) واحدة، تعمل وفقاً لقوانين «التنافس والتعاون»، والاتصال والانفصال، والتقارب والتباعد، في ربط وانفكاك غير مسبوقين في تاريخ الجنس الإنساني، منذ ان كان على الأرض قبل آلاف السنين..

تخيَّل المشهد: انضباط وإخلاء شوارع في شهر رمضان المبارك.. فالكل في المنازل والمآدب يتناول طعام الإفطار، قبل الصلاة أو بعدها، عملاً بفريضة دينية، عظيمة.. هنا انضباط بقوة خارجية، تفعل فعلها في الإنسان المؤمن وغير المؤمن.. ولكنها لحظة اتصال..

تخيَّل المشهد: انضباط واخلاء شوارع عند المساء، بقوة اجراء، ترهيبي، تأديبي، زجري، عملاً بقرار من دولة، اعيد لها الاعتبار بقوة في عصر «المرض - الجائحة»، والهدف حماية النّاس من «شر مستطير» هو الموت شبه المحتم، والعدوى من انتشار هذا الفيروس، المجهول النسب والسبب، والحامل معه علامات الغضب والشغب إلى درجة فرض الانفصال بين الشخص والشخص، وبين العائلة والعائلة، وبين المريض وأهله وأحبته ومعارفه، وبين الدولة والدولة، والجماعة والجماعة، والقارة والقارة، والمصرف وزبائنه، والقاضي والمتداعين امامه، وأصحاب الفبارك والمصانع، والعمال المهرة وغير المهرة.. وحدها شبكة الاتصال الإلكترونية، وحدها الثورة الرقمية كانت بمواجهة الثورة المرضية، والتي تحمل اليوم اسم «Covid 19» أو «corona virus» أو فايروس كورونا..

والـ virus ما هو؟ إنه جرم متناهي الصغر من مرض ما: هو جسم ميكروسكوبي قادر على تركيب جسمه الخاص.. وهو ينتمي، لكنه مختلف، إلى عالم البكتيريا، والميكروبات، والفيروسات.

تخيَّل المشهد: جرم، لا يُرى بالعين المجردة، مجهول المصدر (هو من العالم الأرضي هذا جلّ ما نعرفه حتى الآن)، مجهول الأوصاف والنشأة، عصي على العلاج حتى الآن، يفتك بنوع واحد من الأجناس الحياتية على الأرض، هو الجنس الإنساني، فيشل الاقتصاد العالمي، ويعرّض حركة الطيران في العالم إلى أسوأ الخسائر المالية، وبفقد ملايين من البشر أعمالهم، ويعطل المدارس والجامعات، ويسجن النّاس، بملياراتهم السبعة ويزيد في منازلهم، لا همَّ فخمة، أم تشبه أحياء التنك في بعض المخيمات والأحياء اللبنانية. ويتساوى أمامها ملوك بريطانيا العظمى وبلجيكا وأسبانيا والدانمارك، ورؤساء الدول الكبرى، دونالد ترامب، فلادمير بوتين، وجيانغ الزعيم الصيني، حتى نجوم السينما وملكات الجماهير وممثلي هوليود وكان، وأبطال الألعاب الرياضية من كرة القدم إلى الاولمبياد، يتساوى كل هؤلاء مع مواطن، بلا هوية أو جنسية، بالكاد يعلّق اسمه (أي يكتب) وراء عربة، على ظهرها موز أو لوز أو برتقال، أو فريز، أو أية فاكهة، أو خضرة موسمية كالفول، والبازيللا وما شاكل، وصولاً إلى «أم قليباني» (أو الحمص الأخضر على نبته).

لا حاجة للإصحاحات أو المزامير أو الآيات لفهم ما يجري، تكفي قراءة هذه الأسطر للمؤرخ الأميركي وليام هاردي ماكنيل (1917- 2016) لفهم ممكن لما يجري: ساعدت الشبكة البشر ككل في توسيع نصيبهم من الأرض. فأدت المعرفة التي تولدت ونشرت داخل الجماعة العلمية إلى جهود ناجحة لكبح الأمراض وتحسين غلة المحاصيل.. وأدت إلى فورة في النمو السكاني والتحضر.. لكن (وهذا هو الأهم) يظل هذا الإنجاز محفوفاً بالمخاطر، إذ لا يزال من الوارد ان تفلت الكائنات الممرضة وآفات المحاصيل - ناهيك عن النزاع بين البشر - من أغلالها وتدمّر الظروف التي مكنت من هذا التوسع في اعداد بني البشر..». (جون ماكنيل، الشبكة الإنسانية، ص 430).

في مسيرة البشر الطويلة، وعلى مدى خمسة آلاف سنة من عمر الحضارة، تمكنت شبكة الاتصال من تركيز «الثروة والقوة»، بين مَن يملكون ومَن لا يملكون..

وتميّز القرن العشرين بتركيز التغيير الاجتماعي على التحضر والنمو السكاني، مع بقاء حياة القرية هي الخبرة المعتادة للبشر. ومع ذلك من المدن جاءت غالبية التحديات للإيديولوجيات والمؤسسات والعادات..

قد يكون التحدي الأكبر للقرن الحادي العشرين، وهو يطوي عقده الثاني: كيف تكون عملية التوافق الاجتماعي والسياسي والنفسي والأخلاقي والبيئي ممكنة مع الحياة في المدينة الكبيرة.. وأية ضغوطات ستكون لخبرة أغلبية البشرية الناجمة عن حياة المدنية التي تقوم على الطابع اللاشخصي وغياب المعرفة الشخصية؟

والضغوطات ضمن هذا السؤال الكبير ستكون، افتراضاً على الأديان والايديولوجيات، ورؤى العالم المهيمنة وعلى الأبنية السياسية السائدة!

ضمن هذا البعد المعرفي، الافتراضي، لمجريات ما يجري على أرض الواقع، على أرض المدن الكبرى، الكوسمبوليتانية (المتعددة الأجناس)، «يمكن فهم أبعاد الصراع المستجد حول ظروف الطب الامبريالي»، الذي كان يضرب الجغرافيا وها هو اليوم يطال عواصم المال والأعمال، والمدن المليونية في العالمين القديم والجديد، وصولاً إلى اوقيانيا البعيدة، من دون ان يجرؤ على الدخول إلى الغابات، والجماعات البشرية غير المنفصلة عن الطبيعة هناك (المتوحشة)..

من هذه الوجهة، يُمكن فهم المواجهة الشرسة بين دونالد ترامب، الذي يخضع دورياً لفحوصات الكورونا، من كثرة «هلوساته»، بوصفه زعيم الدولة الكبرى، اقتصادياً وإمبريالياً، أي الولايات المتحدة، مع دولة ناهضة هي الصين، في محاولة لاعادتها إلى الانفصال عن الشبكة الكونية، وحصرها ضمن سور الصين العظيم، بعيداً عن الاصطياد من ثروات الجنس الأبيض، على ضفتي الاطلنطي (الأطلسي)، امتداداً إلى آسيا الوسطى والقريبة، فضلاً عن أفريقيا (الجنس الأسود، المصاب تاريخياً بصنوف من الطب الامبريالي من أوبئة مرض النوم والصحة في الكونغو، إلى الكوليرا في الفليبين، وصولاً إلى الطاعون وتوترات الامبراطورية في الهند).

ومن هذه الوجهة، يُمكن فهم تصرُّف ترامب، كلاعب، مهلوس، في حديقة البيت الأبيض، يخرج رذاذ الكلام من فمه، وكأنه في صراع مع ثيران اسبانيا، أو نمور فلاديمير بوتين، أو ثعابين الكاهن اتوبيس أيام كليوباترا، القيصرة التاريخية، وعشيقة القياصرة الرومان..

وخارج دوائر التبدلات أو التغييرات الحاصلة أو التي يُمكن ان تحصل في نظام الشبكة الإنسانية التي عادت لتعمل وفقا لقانون الاتصال، والانفصال، لاعادة بناء التوازن الكوني بين اقطابه الثلاثة: الكون، الطبيعة، الإنسان، أو بين نظام الطاقة والقوة، أو نظام الإنسان «الغذاء والتناسل»، سواء عبر المسيرة الحضارية خلال 5 آلاف سنة، أو تحولات نظام الشبكة في عصر الثورة الرقمية، من المفيد الاضاءة على ما ورد في الفصل الثامن من كتابه «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية (1998) (تحرير ديفيد ارنولد، تر. مصطفى فهمي) بعنوان: «جائحة الإنفلونزا في روديسيا الجنوبية» أزمة مفهوم.. للإثبات أولاً ان هذه الجائحة (وباء ينتشر انتشاراً واسعاً في أكثر من بلد في العالم) ليست جديدة فهي ظهرت عام 1918 في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي اليوم) في عهد الاستعمار البريطاني، الأبيض، وفسّر حينها انه من تدبير هؤلاء البيض ضد الافارقة السود، وامتد إلى نيجيريا وكل أفريقيا.. وبقي القوم هناك إلى وقت طويل ليستوعبوا ان الجائحة هي أزمة، وأن تأثيراً كبيراً لها سيكون على الأفكار، بما في ذلك الاعتقادات السحرية أو فقدان الثقة بالطب ككل..

وبالنظر إلى المساحة والحجم، سأكتفي بسرد بعض الوقائع بجمل قصيرة، متيسّرة: ظهر وباء الانفلونزا بين الافريقيين في روديسيا الجنوبية، في أماكن الاجتماع ومخالطة أشخاص مسافرين، وفي مكاتب التصاريح التي كان على السود ان يحصلوا عليها بحثاً عن عمل، وهناك انتشر المرض، وامتد.. إلى مجمعات التعدين، حيث يعمل الافارقة في «بيوت متداعية ويتغذون على حصص طعام جد هزيلة». لم يتوقف غضب «الجائحة الأفريقية».. والناس هناك يتذكرون برعب عربات الموتى والدفن الجماعي..

ما أشبه اليوم بالبارحة، قرن كامل يكاد يمضي على جائحة 1918 في زيمبابوي.. والآن جائحة ووهان الصينية، الجنس الأصفر، وفي بيئة مشابهة ترعب كورونا العالم بأسره، ما عدا الأفلاك والمحيطات وعوالم الطبيعة والطاقة والحيوانات.. ليعيد تشكيل الأفكار من جديد، بدءاً من روديسيا قبل مائة عام إلى ووهان ونيويورك ومدريد وروما وباريس، ولندن، والعالم المأهول كلّه..

وبالعودة إلى لبنان (بلد الكم أرزة العاجقين الكون) فإن حقبة جديدة يفترض ان تبدأ، ولم تبدأ بعد، في بلد يُقاتل على أكثر من جبهة، ويضم ستة ملايين نسمة بينهم قرابة مليون لاجئ سوري.. عدا المغتربين العائدين إلى بلدهم، ليلقوا المصير نفسه في قراهم أو مدنهم، البعيدة أو القريبة، المنفصلة أو المتصلة، وسط مخاوف، تتعدّى السيطرة على المرض أو عدمه إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى ما يتجاوز الـ40٪، وارتفاع المديوينة العامة إلى ما يتعدى الـ90 مليار دولار..

والسؤال: هل يستعد اللبنانيون لدخول عالم ما بعد كورونا بكل تغييراته، وقواعده الجديدة؟!

المصدر: «اللواء»