بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2020 12:00ص الأديب، النجيب... اللبيب من الإشارة يفهم!

حجم الخط
اللهم اني قد حاولت... قالها السفير مصطفى أديب قبل أن يهّم بحزم حقيبة سفره عائدا الى مقر عمله في المانيا كسفير للبنان هناك.

قد لا نخفي سراً ان أشرنا إلى أن تجربة السفير أديب في عالم السياسة اللبنانية كانت تجربة جديدة لا ناقة له فيها ولا جمل، وإذا كان الرجل قد حاول الدخول الى المعترك السياسي في لبنان من بابه الواسع العريض الا أنه قد اصطدم بالطبع بسلسلة حواجز وصعوبات ومعوقات واجهته منذ بداية الطريق، فتعثرت المهمة المكلف بها لتشكيل الحكومة الجديدة إلى حدّ الوصول للاعتذار والسقوط.

فعندما استدعي الرجل من الخارج وبالتحديد من قبل بعض أصدقائه الأوروبيين والفرنسيين خاصة وتمت مباركة هذا الاختيار من قبل نادي رؤساء الحكومات السابقين الأربعة حيث تمّ اختياره والموافقة على تكليفه بالمهمة التي ألقيت على عاتقه وهو قد يكون فوجئ بالطبع بهذا الأمر، لما تربطه بالرؤساء الاربعة من صداقات وبشكل خاص العلاقة الوطيدة التي تربطه بالرئيس نجيب ميقاتي منذ أن كان يعمل مديراً لمكتبه ومستشاراً له إبان مرحلة تسلم الرئيس ميقاتي مهام رئاسة الحكومة في لبنان، وكان ذلك قبل أن يسلك السفير أديب طريقه نحو عالم الدبلوماسية كسفير للبنان في الخارج.

وما المخاض العسير الذي واجهه السفير مصطفى أديب خلال محاولاته تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان والصعوبات التي تكدست أمامه إلا دليل على مدى المهمة الشاقة، لا بل المستحيلة التي كلف بها على هذا الصعيد.

لقد حاول الرجل جاهداً تذليل العوائق والعقبات من أمامه وعمل بصمت وهدوء بعيدا عن المشاحنات والمهاترات السياسية وحب الظهور، ولم تغره الأضواء ووسائل الإعلام وشاشات التلفزة التي طالما حاولت مرة تلو المرة ان تسرق منه ولو بضع كلمات أو تصريح واحد للإضاءة على ما كان يعانيه خلال تلك التجربة وتلك الفترة، الا أنه تصرف بحكمة وهدوء ورصانة وبقي حتى اللحظة الاخيرة متمسكاً بصمته وهدوئه، وهذا الأمر ميّزة عن غيره من الشخصيات التي قُدر لها ان تكلف أو تتبوأ مثل هذا المركز الحسّاس المهم جداً، أي رئاسة  الحكومة اللبنانية ولو مكلفاً على الأقل.

لقد أجمع الكل على أن السفير مصطفى أديب هو اسم على مسمى، حيث كان أديباً، مهذباً، لطيفاً ولائقاً خلال محاورته كل الأطراف التي التقى بها وتفاوض معها بما يتعلق بأسماء الوزراء وتحديد المقاعد الوزارية في الحكومة العتيدة التي حاول تشكيلها من دون أن يوفق بذلك، وكأن السفير أديب كان يُخفي في سره أسرارا وأسرارا، ولم يستطع أي من المراقبين أو حتى السياسيين أنفسهم إكتشاف لغز تلك الأسرار وأبعادها حتى بعد انتهاء مهمته واعتذاره عن تشكيل الحكومة.

البعض قال ان الرجل لم ولن يتخطى الحدود التي رسمت له والتي على أساسها تمت تسميته رئيساً مكلفاً لتشكيل الحكومة، فيما البعض الآخر قال أن نادي رؤساء الحكومات السابقين هم الذين رسموا خريطة الطريق للرئيس المكلف ووضعوا له الأسس والعناوين للحكومة العتيدة بأدق تفاصيلها وحذافيرها، كما وان طرفاً ثالثاً اعتبر ان أديب هو تلميذ نجيب للنجيب الذي عمل معه لفترة طويلة كمدير لمكتبه ومستشاراً له في ما مضى، الا أن التلميذ في بعض الأحيان يتفوق على استاذه، ويستفيد  من التجربة التي أمضاها معه لكي يقطف ثمارها حين تدق الساعة، وهذا ما قد يكون حصل بالفعل مع السفير أديب،  إلا أن هذه المحاولة ذهبت أدراج الرياح.

لذلك، بالإمكان القول أن تجربة السفير أديب، خلال الأسابيع  القليلة الماضية التي حاول خلالها تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان والتي باءت بالفشل كانت كافية بالنسبة له على الاقل وللآخرين لكي يبنوا من خلالها على أمور كثيرة، أبرزها انه رغم كل القنوات الدبلوماسية الاقليمية والدولية التي كانت تعمل ليلاً نهارا في الغرف المغلقة ومن وراء الكواليس أو حتى في العلن لم تستطع مساعدة أديب على إنجاز مهمته بنجاح، إنها استطاعت فقط إبراز دوره كشخصية تحاول أن تكون مستقلة إلى حدّ ما تريد تشكيل حكومة إخصائيين مستقلين لا ارتباط لهم بأي حزب أو تيّار أو جهة سياسية وهذه القنوات الدبلوماسية لم تنجح بدورها في مهمتها المساندة للسفير أديب في مهمته الصعبة آنذاك.

أضف إلى كل ذلك ان  الفسيفساء الحزبية والطائفية والسياسية في لبنان قد فرضت نفسها على السفير أديب وعلى الواقع اللبناني في حينه، فكاد ان يضيع الرجل بين مطالب هذه الفئة أو تلك أو بين شروط الأطراف السياسية المتنازعة على مختلف أطيافها ومشاربها واتجاهاتها، لكن في نهاية المطاف فهم أديب أصول اللعبة السياسية وأبعادها عن قرب،  وكأني به قد أراد القول للآخرين «ان اللبيب من الإشارة يفهم»، وأيضاً انني قد أدركت وفهمت مدى خطورة الوضع اللبناني وصعوبة المرحلة ومدى خطورة الدخول في اللعبة السياسية في هذا البلد ومن ورائها السياسيين اللبنانيين الذي يتصارعون على حلبة الوطن فيما الوطن لم يعد يحتمل صراعاتهم وخلافاتهم وما أوصلوه إليه، وهمهم الوحيد المحافظة على مكاسبهم ومغانهم وامتيازاتهم الطائفية والمذهبية والسياسية والمنطقية، وقد بات عليّ أن أجري فحص PCR على عجل وأحزم حقيبة سفري وأعود إلى مقر عملي في المانيا، لأن عالم  الدبلوماسية يبقى بالنسبة لي أبقى وأفعل من الخوض في عالم السياسة ومتاعبها في لبنان التي لا ترحم.

ومع انتهاء تجربة أديب، تتردد حالياً في الأوساط السياسية معلومات أن هناك توجهاً لتشكيل حكومة تكنوسياسية مؤلفة من عشرين وزيراً، برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، يسمي هو منها 6 وزراء دولة موزعين على مختلف الطوائف على ان يكون باقي الوزراء الـ14 موزعين بين سياسيين واخصائيين، وهذا الأمر يُمكن ان يتبلور بوضوح خلاله الأيام أو الاسابيع القليلة القادمة، وذلك في حال اصرار الرئيس سعد الحريري على عدم قبوله مهمة تشكيل الحكومة الجديد ة في لبنان.

فعلاً، مصطفى أديب كنت أديباً بكل ما للكلمة من معنى، وكنت نجيباً في تعلم الدروس والعبر، وكنت لبيباً بامتياز حيث فهمت ان اللبيب من الإشارة يفهم، وما عليك الآن الا أن تحاول يوماً ما، البوح بما حصل معك بأدق التفاصيل، وتسرده بأمانة وتجرّد واخلاص، علّ أن يكون هذا اليوم قريب جداً، وعندها فقط يُمكن إنصافك أو الحكم عليك بصدق وتجرد أيضاً.