6 تموز 2023 12:00ص الاستنساخ القاتل... الفيدرالية نموذجاً

حجم الخط
في كتاب وجيه كوثراني بعنوان «الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان والمشرق العربي» ذكر أن مطران زحلة كيريلس مغبغب قال في المذكرة التي أرسلت إلى مؤتمر الصلح بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى: «إن الطائفة الدينية هي التي تحدد وتصنف الهويات الوطنية... هذا ما جعل مسيحيي سوريا يلجأون منذ قرون إلى جبلهم هربا من ظلم العرب المسلمين والأتراك. واليوم إن أية محاولة لضم لبنان الكبير مع كل سكانه المسيحيين إلى بقية سوريا وتحت سيادة أمير عربي غريب يستلهم سلطته من العقيدة الإسلامية هي عمل خطر يتناقض مع الأهداف الإنسانية التي أعلنها المؤتمر». منذ ولادة دولة لبنان الكبير لا بل منذ نشأة نظام القائمقاميتين مروراً بنظام المتصرفية وصولاً إلى واقعنا اليوم، تعيش البلاد في حالة من الصراع والنزاعات متأثرة بالتاريخ ومتخندقة فيه، ما قاله المطران هو تماماً ما يشعر به المسيحيون اليوم، فهم يشعرون بالخوف والقلق وحالة من القرف تجاه كل المكونات الأخرى، خصوصاً بعد الاتفاق الأخير الذي حصل بين إيران والمملكة العربية السعودية تحت الرعاية الصينية حيث بدأ الطرح الفيدرالية يتبلور وينضج أكثر وأكثر ولم يعد يقتصر على التنظير والندوات الأكاديمية إنما بدأ يتحول إلى رأي عام في الشارع المسيحي، وكي يكون هذا الطرح قابلاً للتصديق والمقبول في الحيز العام لا بد له أن يكون مدعوماً بأدلة تظهر نجاح هذه التجربة وإسقاطها على الواقع اللبناني، فقام المنظرّون لهذا المشروع بأخذ النموذج السويسري والأميركي والإمارات العربية المتحدة كأمثلة متنوعة ومختلفة وبدأوا بإقناع الجمهور بمدى نجاح تلك التجارب وضرورة تطبيقها في لبنان.
نعاني في شرقنا المحبط من ظاهرة الاستنساخ، فالاستنساخ الذي نتكلم عنه ليس بالمعنى العلمي البيولوجي (cloning) إنما بالمعنى التجارب الإنسانية، إن استنساخ التجارب هي عملية مميتة وقاتلة للشعوب والأمم إذا لم تخضع للتعديل والتجديد كحدٍ أدنى، فكل تجربة إنسانية لها سياقاتها التاريخية المتعلقة بطبيعة المجتمع وتنوعه الثقافي والقومي وبعده التاريخي وغيرها من تفاصيل مثل المساحة الجغرافية والديمغرافية، لقد فشلت الديمقراطية حتى الآن في بلادنا لأن سياقها التاريخي في الغرب مختلفاً تماماً عن الطبيعة المشرقية إضافةً لارتباطها بمفاهيم عدة مثل الاستعمار والاستشراق. وهذا هو حال الفيدرالية، السؤال الذي يتوجب علينا أن نسأل أنفسنا قبل أن نصدر الأحكام، هل هي قابلة للحياة في ظل الانقسام العامودي الرهيب؟ قبل ذلك لا بد لنا أن نحلل قليلاً تلك التجارب، فلنأخذ النموذج السويسري ونقوم بمقاربة منطقية ونحلل سياقها التاريخي لتلك التجربة.
بدايةً لقد سبق النظام الكونفيدرالي النظام الفيدرالي السويسري، ففي سنة 1291 نشأ النظام الكونفدرالي حين اتحدت ثلاثة كانتونات حينها كان الحافز الأهم هو الاقتصاد. ومع نجاح التجربة تلك وتحقيقها نوعاً من الرفاهية الاقتصادية والاستقرار السياسي، فلقد أغرت ذلك النجاح بعض الكانتونات الأخرى بالانضمام. ومع نهاية القرن 18 بلغ عدد كانتونات التي تريد الانضمام إلى ذلك الاتحاد 13 ثم قفز إلى 22 مع نهاية سنة 1849. فلقد أخذت عملية الدمج بين المكونات المختلفة للوصول إلى الحالة الفيدرالية قرابة الستة قرون، لا بد من ذكر مؤتمر وستفاليا سنة 1648 الذي غير طبيعة الصراع القائم آنذاك في أوروبا، ثم نظام الحياد الذي انتهجته سويسرا بعد انتهاء الحروب البونابرتية الذي أقر في مؤتمر فيينا سنة 1815. إضافةً إلى عاملٍ لا بد من التصويب عليه الذي يركز على طبيعة الاختلاف بين المكونات المجتمعية، بداية الصراع كان ذات طبيعة اقتصادية ثم مع ظهور الحركة الإصلاحية الدينية بقيادة مارتن لوثر أخذ الصراع منعطف آخر وأصبح طائفياً بين البروتستانت والكاثوليك، ثم تطور مرة أخرى مع ظهور الدولة الحديثة وآلياتها البيروقراطية حيث أصبحت القوميات هي السمة الجديدة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، لقد تكونت مجموعات من القوميات والجماعات اللغوية المتنوعة مثل الألمانية والإيطالية والفرنسية بنسبٍ متفاوتة، بعد هذا السرد السريع ننتقل إلى مقارنة بسيطة، ما هو أوجه الشبه بين الطبيعة المجتمعية والتقارب الثقافي والسرد التاريخي بين لبنان وسويسرا؟ لا يوجد أي وجه شبه على الإطلاق مما يحتم فشل تطبيق ذلك المقترح الذي لا يمكن إنكار أنه نجح في أماكن ضمن سرديات ومعطيات معينة ومختلفة. لقد كانت كلٍ من الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا ضمن اتحاد يعرف بالكونفيدرالية ثم تحولا إلى دولتين اثنتين تحت نظامٍ سياسي إداري اسمه الفيدرالية، أما في الحالة اللبنانية فهي دولة طائفية مركزية وليست دول متحدة تسعى للاندماج، إنما تسعى إلى التفكك في ظل هيمنة العصبيات والطائفية على الدولة والمجتمع. في الظاهر فهي تجربة تدعو إلى نظام إداري متطرو يسعى إل تنظيم الإختلافات العرقية والمجتمعية بكل تفرعاتها، أما في الباطن فهي تسعى إلى تكريس الانقسام وذلك لأننا نعيش في ظل فيدرالية مقنعة طائفية وخير دليل إشكال قرنة السوداء. السؤال الأخر، هل هذا المقترح سوف يعالج أزمة السلاح غير الشرعي أم أنه سوف يحيد المكون المسيحي فقط عن هذا الصراع وعن دوره التاريخي الذي بدأ في تأسيس لبنان دون إيجاد حل نهائي وشامل لهذه الأزمة التي تفتك بالدولة والمجتمع على حدٍ سواء؟ هل سوف يتخلى المسيحيون عن لبنان الرسالة كما وصفه البابا سابقاً؟ ماذا عن السنة؟ هل سوف يقبلون بهذا الطرح؟ للحقيقة إن هذا المقترح هو قاتل لأصحاب الاقتراح أنفسهم كونهم سوف يعيشون في حالة من العزلة ولن تنتهي حالة الأرق الذي يعيشونه كل يوم.
لا يمكن أن ينجح استنساخ تجارب الآخرين وإسقاطها دون أي تعديل وتجديد، ألم نتعلم من التجارب المريرة السابقة؟ ألم نقرأ التاريخ كي نتجنب الأخطاء ولا نعيش المأساة نفسها؟ لقد حُكمنا بقدرٍ محتوم وهو أن نعيش في متاهة ليست مُقدرة إنما كتبناها لأنفسنا بأيدينا عندما قررنا التعايش ولم نقرر أن نعيش مع بعضنا البعض ضمن عقدٍ لا يؤسس أي حالة فئوية على طراز المارونية السياسية والسنية السياسية والآن الشيعية السياسية، علينا جميعاً أن ندرك أننا تُركنا لمصيرنا من الغرب والشرق، ولا بد لنا أن نعالج أزماتنا من خلال بناء دولة المؤسسات والقانون والمواطن أسسها الديمقراطية التي تحمي التعددية قبل أن نتفاهم على شكل النظام الذي نريده وثم نقوم ببناء هوية وطنية ضمن مفهوم الهويات المركبة التي لا تطمس الهويات الفرعية المتعلقة بالدين والتراث والثقافة والطائفة.