بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 تشرين الأول 2020 12:02ص الثورة انجزت ادانة منظومة السلطة وحطمتها... وما تبقى اطلاق آليات بديلتها

حجم الخط
منذ سنة تماما، في 17 تشرين أول عام  2019، خرج الشعب اللبناني الى الشوارع والساحات في واحدة من أرقى الثورات في تاريخ لبنان والمنطقة، وفي اسمى انتفاضة، هي ثورة قيمية في سلميتها، وفي تحررها من التبعية. ثورة اخلاقية بعدالتها ومساءلتها ومحاسبتها للمرتكبين والفاسدين.

لقد أعلن جيل الانتفاضة زمنا جديدا، لا مكان فيه للفساد والعنف، فلا الطائفة وحقوقها ولا الحزب المسلح، ولا القضايا التي يخرجونها من جوارير الحرب الاهلية ولا شيطنة الآخر المختلف، ولا العنف العاري ميليشياويا كان أم رسميا، لا شيء من كل ذلك استطاع ان يهزم منطق الثورة ويطفئ غضبها، الامور هذه فقدت صلاحيتها فهي من زمن آخر مضى.

الانتفاضة أرست ثقافة جديدة، فبعد ان كانت القيم السائدة ترتكز على الولاء للمرجعية والانتماء الطائفي والزبائنية السياسية ومقايضة الولاء للزعيم بالخدمات الاساسية للمواطن من فرص عمل وتعليم وطبابة، جاءت الثورة لتصنفها حقوقا مواطنية بديهية، ولتضع قيما جديدة تنبذ الطائفية وتعلي قيم المواطنة باتجاه بناء دولة مدنية حديثة، دولة قانون ومؤسسات، دولة سيدة على حدودها وداخل حدودها، تحتكر العنف وتكرس سيادة القانون كل قانون، فأدانت الفساد كجريمة، وطالبت بإستعادة الاموال المنهوبة، معلنةً الخروج من عباءة الزعيم، كما أدانت العنف والتزمت بالثورة السلمية والدستورية. القيم هذه، باتت راسخة في وعي الناس وتستمر حية في وجدانهم، وتلك ثورة بحد ذاتها. 

لقد فضحت الانتفاضة تحالف السلطة المتمثل بمنظومة الفشل والفساد والارتهان للخارج ووضعته في موضع الاتهام ثم الادانة داخليا وخارجيا. وانطلق الناس يتهمون السلطة وأهلها بمسؤولياتهم عن الكارثة المالية والاقتصادية وعن تعميم الفساد وتحويله إلى نمط عيش، وبات أطراف السلطة أنفسهم يتقاذفون التهم في ما بينهم، معترفين بجرائمهم، فيما سعى كل منهم للتملص من مسؤوليته بتبرئة نفسه منفردا.

ونجحت الثورة من خلال فعالياتها ومبادراتها في تسليط الضوء على مكامن الفساد في الدولة كالكهرباء والاتصالات والطاقة والضمان الاجتماعي ومساعدات الدول المانحة والمرفأ والمصارف والمعابر الشرعي منها وغير الشرعي الخ... وتجرأت فعاليات الانتفاضة التي كانت تنتقل من موقع إلى آخر بأن تسمي الفاسدين بالاسم، مسقطة المحرمات والرموز السياسية، بعد ان علقت مشانقهم في الساحات، فاحتلت الفضاء الاعلامي، فيما بات أصحاب السلطة في موقع الدفاع والإدانة أو المطاردة ولم يعد بإمكانهم التجوال بحرية ومواجهة الناس والمشاركة في الحياة العامة. وبعدما كانت الحياة السياسية تدور حولهم، بات الفضاء العام موجها حول حقوق المواطن الاساسية، التي شكلت محور الحياة السياسية، فيما كانت إلانجازات المزعومة لكل زعيم هي المحور؛ في هذا المخاض السياسي الجديد أصبح الناس هم الذين يصنعون السياسة بعدما كانت أحزاب السلطة هي من تصنع الناس.

كما استطاعت الثورة أن تدفع الى مقدمة صفوفها الأمامية أجيالا من النساء والشباب وقطاعات واسعة من الناس، لم تكن السياسة في اولوياتهم، فانخرطوا في العمل السياسي وباتوا في مقدمة صفوف الثورة.

لقد أعادت الانتفاضة اكتشافنا لمساحات اللقاء وامكانيات العيش المشترك، وطوت صفحات استدعاء الحرب الاهلية، فأسقطت حصرية ونمطية المناطق؛ فكم بدا إسم الله جميلا وهو يتوسط ساحة النور في طرابلس التي تجلت عروسا للثورة تُزف لكل لبنان، وكم تبدّت النبطية وصور وكفر رمان، زاهية الالوان وهي خارجة لتوٌها من رماد الكآبة، وكم تألق ليل بعلبك دافئا وآمنا، وكم تعملقت بيروت أماً تحتضن كل لبنان في ساحة شهدائها، وكم أزهرت عجقة أعراس الطريق الساحلي في المتن وكسروان، فغَدونا نحب لبنان كما لم نحبه من قبل!، في ظل العلم اللبناني الذي أحرج الرايات الفئوية وأخرجها من الساحات.

خلال سنة كاملة من عمر الانتفاضة، فقدت السلطة خلالها شرعيتها أمام شعبها و مصداقيتها أمام دول العالم بعدما أوصلت البلاد الى الانهيار والافلاس، كما خسرت وحدة وانسجام أطرافها، وتضاءل ولاءُ قواعدِ أحزابها، وباتت معزولةً في الداخل والخارج. 

وبدل أن تتحمل مسؤولية فشلها وفسادها لتخضع لآليات محاسبة ومساءلة سياسية ومالية وقانونية وادارية، ولتسعى لإجراءات تخفف بها النتائج الكارثية للانهيار المالي والاقتصادي، اختارت قوى المنظومة السياسية انتهاج سلوك العصابة فتبنت خيار الاستثمار بالكارثة والاستقواء على الشعب بتداعياتها، ممعنة في تهديد الناس في أرزاقهم واموالهم وصحتهم وتعليم أبنائهم وأمنهم وقوت يومهم، فتابعت الاستيلاء على ما تبقى من ودائع مالية في مصرف لبنان، عبر تهريب المواد المدعومة أسعارُها، وعبر انتقائية مافيوية فجة في التعامل مع عمليات تحويل الاموال الى خارج البلاد، كما اعتبرت جريمة المرفأ فرصة لفك عزلتها ومناسبة للتسول باسم ضحايا الجريمة، وذهبت لمفاوضة العدو الاسرائيلي برعاية اميركية، مسقطة دفعة واحدة كل مقولات الممانعة وأخواتها، ومعتبرة أن الجلوس مع العدو هو قارب نجاة قد ينقذها، فيما جعلت من وباء كورونا ذريعة تتمترس من خلفها، ازاء كل تحرك جماهيري، وجديدها اليوم محاولة بائسة لإعادة تعويم المنظومة عينها، باستغلال المبادرة الفرنسية وحرفها عن مقاصدها التي تهدف لمساعدة شعب لبنان وليس لإنقاذ منظومة الفساد فيه.

وتترافق محاولة التعويم هذه مع انطلاق حملة أسئلة متحاذقة، يطرحها اعلاميو المنظومة الفاسدة ومناصروها بخفر، تردد مقولة الاستنتاج بفشل الثورة بسبب غياب وحدتها، وكأن اطراف السلطة التي تحكمنا، يسطرون ابهى تجليات وحدتهم وانسجامهم، ولعلنا كنا نصدق سحر الوحدة ونسك الداعين اليها، لولا اجبارنا المأساوي على متابعة التناوب المسرحي لكل أطراف المنظومة على اداء متكرر ومستمر لدَورَيّ دبٍ وقردٍ، يتنازعان كلّ شيء في لعبة هزل كارثية.

فيما ينبري آخرون اشد وقاحة وكذبا في تحميل الانتفاضة مسؤولية الكارثة التي صنعتها هذه السلطة، ولم تكن الانتفاضة سوى ردا شعبيا بديهيا على موجات النهب المتتالية التي تناوبت عليها احزاب المنظومة وادت الى افقار البلاد ونهب مواردها واملاكها العامة ومدخرات واجور مواطنيها.

التغيير في لبنان ليس أمرا سهلا، لذلك لم تنجز الانتفاضة ترحيل هذه السلطة واقامة سلطتها البديلة، رغم اسقاط حكومتين متتالتين واستقالة عدد من نواب الندوة البرلمانية، ولقد أثبتت الاحداث أن هذه المنظومة ستظل تقاتل حتى آخر رمق، فما هي العوامل التي أخرت واعاقت التغيير المطلوب ومنعت تحقيق هدف الثورة بترحيل السلطة واقامة سلطة بديلة عنها!؟

بالعودة الى تجارب الثورات وحركات التغيير يمكن لنا ان نجد الوسائل التالية التي ادت الى نجاح الثورات في ترحيل حكامها وتغييرهم: 

١- استجابة اطراف السلطة الحاكمة لضغط الشعب والرأي العام والاستقالة. وفتح آليات اعادة تكوين السلطة كالانتخابات المبكرة، لم يحدث ذلك في لبنان لان اصحاب السلطة لم يتصرفوا كرجال دولة؛ استقال سعد الحريري، ابتعد سمير جعجع وسلم وليد جنبلاط بعدم وجوده بوزارة حسان دياب، لكن عون وبري وحزب الله تمسكوا بعدم التراجع قيد أُنملةٍ، فكانت حكومة حسان دياب التي فشلت ووسعت مفاعيل الكارثة وعمقت جروحاتها، وبعد جريمة المرفأ كان المنطق ان تحدث الاستقالة الثانية تتبعها انتخابات مبكرة، لكن حصل العكس وتصرفت أحزاب الاكثرية النيابية كرجال عصابة بعد جريمة المرفأ، معتبرة تدمير نصف بيروت، فرصةً لفك عزلتها العربية والدولية.

٢- الوسيلة الثانية الجيش والقوات المسلحة التي كان يمكن ان تتخذ موقفا مشابها لما اتخذته جيوش تونس والسودان وهذا لم يحصل، بل في كثير من الاحيان شكلت القوات المسلحة اداة بيد السلطة. ولم تكتف بممارسة القمع، بل سمحت لعنف الميليشيات ان ينال من عيون واجساد المتظاهرين وخيمهم.

٣- الوسيلة الثالثة القضاء عبر حملة لمحاربة الفساد على شاكلة الايادي البيضاء في ايطاليا تضع رموز السلطة في اقفاص العدالة، لم يحدث ذلك بل على العكس تم اجهاض التشكيلات القضائية، التي كانت اول خطوة في مسيرة استقلالية القضاء، كما تم شل اي دور لنقابة المحامين ونادي القضاة واستباحت النيابات العامة حقوقا يكفلها الدستور كحرية الرأي والتعبير والتظاهر.

٤- الوسيلة الرابعة هي قيام تجمع نقابي يدعم الثورة كما حدث في تونس في مواجهة محاولات الاخوان المسلمين لخطف الثورة التونسية بعد رحيل زين العابدين بن علي، ولعله من الواضح في لبنان ان الاتحاد العمالي العام ونقاباته كإتحاد النقل مثلا هم أوضح ادوات السلطة، وهي تتحرك كواجهات تمارس الثورة المضادة.

٥- الوسيلة الخامسة ضغط اقليمي ودولي لترحيل السلطة، وهذا ما لم تستطعه المبادرة الفرنسية، بعد أن حاولت اطراف السلطة مواجهتها وحرفها عن مقاصدها، ساعية الى ان تتجنب المزيد من العقوبات الاميركية بالذهاب الى مفاوضات ترسيم الحدود مع اسرائيل وتخفيف الضغط الدولي بعرض صفقة، تتضمن تحرير اسرى ورهائن وتحوز على موافقة ايرانية وسورية، حملها الجنرال عباس ابراهيم الى الـC.I.A في واشنطن وقد يكون عرض توسيعها الى سياسية مع باريس في طريق عودته.

٦- الوسيلة السادسة ممارسة العنف الثوري عبر تنظيمات مؤهلة لذلك، تشل عنف السلطة المضاد وترفع عن الفعاليات الجماهيرية الحاشدة، سيف التهديد والقمع وفقأ العيون وملاحقة الثوار، وهو خيار مشوب بخطر تحول الثورة الى حرب اهلية، تجعل من الثورة كارثة اضافية، وتصب الماء في طاحونة الميليشيات التي تجيد استعمال العنف الاهلي والارتزاق من الانقسامات المذهبية.

وفي مواجهة سلطة الخداع والفشل والفساد والارتهان الى الخارج ستستمر الثورة عبر مواجهة تحديات أربعة: 

• التحدي الاول هو التأسيس على استقالات النواب لخلق دينامية نيابية معارضة ومتصاعدة تهدف الى منازلة الاكثرية النيابية في شرعيتها القانونية، ومحاولة تفكيك هذه الاكثرية من اجل منع المنظومة من اعادة تثبيت سيطرتها وتعويم رموزها، ومن اجل جعل الانتخابات النيابية في راس جدول الاعمال الوطني.

• التحدي الثاني أن تنبثق من الثورة أدوات سياسية هدفها التغيير، واقامة سلطة بديلة ، فالمطلوب رحيل هذه المنظومة. والمعبر للسلطة البديلة هو الانتخابات النيابية التي يجب ان تجري دون تأجيل او تسويف، وتجريها حكومة حيادية ليس فيها اي وزير من احزاب السلطة، وتشرف عليها هيئة مستقلة وبمشاركة دولية فاعلة وناشطة. 

• التحدي الثالث: استقلالية القضاء الخاضع حاليا لرغبات ومصالح المنظومة السياسية والذي لم يتحول حتى الآن، إلى قضاء يطبق القوانين فقط ، فهذا القضاء لم يتصد لأية حالة فساد بالرغم من تعاظم حجم الاموال المهدورة والنهب المنظم ولم يحاسب أي مرتكب، بل على العكس قام باعتقال اكثر من ألف ناشط سياسي ليحاكمهم على آرائهم وتحركاتهم تجاه السلطة. 

• التحدي الرابع هو علاقة الثورة بالجيش والاجهزة الامنية، فهذه مؤسسات وطنية مهمتها الدفاع عن الوطن وحماية النظام الديمقراطي وحقوق المواطنين وليس الدفاع عن أهل السلطة، ويبقى دور الجيش معولا عليه في اكثر الاحيان، في مواجهة سلطة تدفع بقواته الى مواجهة أهله عبر قمع المتظاهرين، فيما تستعمل الميليشيات في الوقت نفسه العنف لمواجهتهم والهجوم على خيم المتظاهرين واحراقها.

إن صياغة برنامج الثورة ليست مسألة اكاديمية تتعلق بشهادة الكُتاب الصاغة وخبرتهم ومهارتهم وأمانتهم العلمية، هذه الامور ضرورية لكنها ليست كافية وليست حاسمة لتكون هذه الصياغة عنصرا في توحيد الثورة وتحقيق اهدافها: الثورة مجمعة على ترحيل احزاب السلطة وتشكيل حكومة من غير هذه الاحزاب، لماذا لم يحصل هذا الأمر!؟

والجواب البسيط هو ان فكرة التوحيد ايجابية لكنها ليست كافية لترحيل السلطة واعادة بناء سلطة بديلة، هناك موازين القوى في الشارع وغير الشارع في بنيان الدولة العميقة: جيش/ اجهزة امنية/ قضاء/ مصارف/ نقابات/ مؤسسات رعاية اجتماعية/ جامعات ومؤسسات تربوية/ مستشفيات، ومرجعيات دينية؛ كل هذه القوى بحاجة الى معالجة امورها والتفاعل مع مصالحها، واستمالتها او اضعاف تأثير المعادية منها، لكي تنجح الثورة.

إن ثورتنا المرتكزة على الوعي الوطني العابر للمناطق والطوائف والتي تضم مختلف الشرائح الاجتماعية مطلوب منها من أجل لبنان، مواجهة تحديات نجاحها وانتصارها، وبلورة وانتاج سلطة بديلة بكل مستوياتها عبر رؤية سياسية، وحلول مالية واقتصادية، واقتراحات قوانين حديثة اصلاحية، وعبر تقديم شخصيات عامة مشهود لها بالعلم والكفاءة والوطنية، ان مناسبة ١٧ تشرين ٢٠٢٠ ليست مناسبة للاحتفال فقط في مختلف الساحات، بل لتأكيد متابعة المسيرة وبناء دولة ووطن يليقان بمستقبل واعد.