هل يمكن الجمع في الوقت ذاته بين التفاني في دعم اسرائيل والدفاع عنها، وكراهية اليهود ؟.
أثبت الأسقف الانجيلي بيل غراهام الذي توفي عن عمر بلغ 99 عاما، والذي حضر الرئيس دونالد ترامب مأتمه، ان هذا الجمع ممكن. بل أثبت انه يشكل أساساً وقاعدة لحركة دينية – سياسية فعالة في المجتمع الأميركي.
كان الأسقف غراهام مقرّباً من عدد من الرؤساء الأميركيين لما كان يتمتع به من قوة تأثير في المجتمع الأميركي من خلال المواعظ الدينية التي كان يلقيها والتي كانت محطات التلفزة والاذاعة والصحافة تتنافس في نقلها ونشرها على أوسع نطاق. وكان من المؤمنين بنظرية العودة الثانية للمسيح، وبأن من شروط هذه العودة قيام صهيون وتجميع اليهود فيها وبناء الهيكل اليهودي الذي يعلن المسيح منه عن عودته المنتظرة. ولذلك كان يؤمن بوجوب مساعدة اسرائيل من أجل تحقيق هذه النبوءة (؟) وكان يكره العرب والمسلمين لأنهم في معارضتهم لاسرائيل، يؤخرون هذه العودة بتأخير اكتمال شروطها المسبقة.
بهذه الخلفية الدينية استطاع بيلي غراهام أن يؤثر بشكل مباشر في قرار الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الاب قصف العراق بعد الاجتياح العراقي للكويت في عام 1990، وذلك لكسر شوكة قوة عسكرية كانت تشكل خطراً على الامن الاسرائيلي، وكذلك انتقاماً لليهود من الجريمة التاريخية التي ارتكبها بحقهم نبوخذنصر!! –حسب إيمان غراهام-.
وكان غراهام يردد ان اجتياح العراق يشكل فرصة ذهبية لنصرنة شعبه (أي تحويله الى المسيحية).ولم يكن غراهام يعرف في ذلك الوقت ان في العراق مسيحيين. وان المسيحية المشرقية موجودة منذ أيام المسيح، أي قبل الاسلام، وانها مستمرة حتى اليوم. ولما عرف بوجودهم اعتبر مسيحيتهم «ضالة» وتحتاج الى تصحيح من خلال اغراقهم بالمساعدات «الانسانية». وهو ما رفضه المسيحيون العراقيون جملة وتفصيلاً، حتى جاء المتطرفون الارهابيون ليحققوا له أهدافه مجاناً!!
واذا كان غراهام مؤيداً بقوة لاسرائيل باعتبارها جسر عبور المسيح الى العالم الجديد، فان مشاعره من اليهود كانت مختلفة تماماً. ولم تكتشف هذه المشاعر على حقيقتها الا صدفة، ومن خلال التسجيلات الرسمية لوثائق البيت الأبيض التي سمح القضاء الأميركي بتجاوز سريتها أثر فضيحة وترغيت (وهي فضيحة تنصت الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على مقر الحزب الديمقراطي المعارض له في مقر الحزب في مبني وترغيت بواشنطن).
كان اهتمام التحقيق القضائي منصبّاً على معرفة توجيهات الرئيس نيكسون المباشرة وبصوته لاقتحام مركز الحزب الديمقراطي المعارض له لإدانته. ومن خلال جلسات الاستماع الى هذه الأشرطة المسجلة، برز موقف الأسقف غراهام وهو يقول للرئيس نيكسون في حديث متبادل بينهما يعكس مشاعر كراهية الرجلين لليهود، يقول غراهام:» انك لا تعرف ما هي مشاعري الحقيقية من اليهود ومما يفعلونه لهذه البلاد. انهم ينشرون الأفلام الإباحية لتخريب القيم المسيحية في المجتمع الأميركي». يومها كان الرئيس نيكسون يشكو من عدم وفاء اليهود له وتخليهم عن دعمه.
ومنذ أن نشرت أقواله عن اليهود اعتزل غراهام العمل السياسي عبر الرؤساء وأعضاء مجلسي الكونغرس الا انه واصل دوره الديني – السياسي عبرالمواعظ التي كان يلقيها حتى أقعده المرض. ولعل أكثر الرؤساء الاميركيين تأثراً به وبتعاليمه كان الرئيس رونالد ريغان الذي كان يستضيفه باستمرار في البيت الأبيض ليقف على رأيه الديني من القضايا السياسية الدولية التي يواجهها، وخاصة في الشرق الأوسط حيث تنتظر العودة الثانية للمسيح. وقد كلفه عدد من الرؤساء بمهمات سياسية تحت غطاء ديني، خاصة في ألمانيا. لم يكن ترامب يؤمن بهذه العقيدة، الا ان جمهور مؤيديه كان متعلقاً بها، ولذلك تقرّب من غراهام واعتمد مايك بانس، احد اقطابها، نائباً له.
وبالفعل قام غراهام بعدة زيارات لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حيث نظمت له مهرجانات لإلقاء مواعظه الدينية. ورغم ان ألمانيا كانت مكسورة الجناح في تلك الفترة، فقد انتقدته صحافتها، ووصفت مواعظه بأنها ترويج للدين على طريقة الترويج لمعجون الأسنان أو الصابون. ووصفته تلك الصحف بأنه « بندقية الله». وهو الوصف الذي حاول زعيم داعش في العراق انتحاله لنفسه!!..
لم يكن غراهام حريصاً على الدعوة الى الانجيلية في الدولة الألمانية التي انبثقت عنها الحركة الكنسية الانجيلية –عبر مارتن لوثر- ولكنه كان حريصاً على توظيف الدين ضد العلمانية السوفياتية وتوظيف الرأسمالية ضد الشيوعية. فكان اداة سياسية بلباس ديني . وكان من أهم منتقديه الاسقف الالماني الشهير مارتن تيموللر وذلك على خلفية ربط غراهام المسيحية بالولايات المتحدة، وكأن المسيحية ولدت هناك.
من أجل ذلك ضمّت ادارة الرئيس دونالد ترامب عدداً من أتباع الأسقف بيلي غراهام في ادارته. وهو ما يفسّر اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل مقر السفارة الاميركية اليها، وهو القرار الذي لم يتجرأ على تنفيذه أي من الرؤساء السابقين. ذلك انه لم يصل الى البيت الأبيض قبل السيد بنس ممثل عن الحركة المسيحانية الانجيلية التي تؤمن بوجوب قيام صهيون شرطاً مسبقاً لعودة المسيح. وهو الإيمان الذي أعطى الحركة اسم «الصهيونية المسيحانية». وكان غراهام أحد أكبر دعاتها.
لم يكن بيلي غراهام محباً لاسرائيل وكارهاً لليهود فقط، ولكنه كان كارهاً للسود أيضاً. وكان يعتبر العنصرية ضد السود امراً شخصياً، واثماً فردياً، وليس شراً اجتماعياً يحتاج الى سلطة سياسية لتصحيحه.. كذلك كان ينظر بازدراء الى الحركات التي تدعو الى «احترام الحريات الدينية».. وكان يؤمن بأن لا دين الا المسيحية، وأن لا مسيحية الا الانجيلية. وكانت الحركة المسيحانية الصهيونية تتطاول حتى على بابا الفاتيكان وتصفه بأنه «المسيح الدجال». ولذلك لم يلتقِ غراهام بأي من باباوات الفاتيكان الذين زاروا الولايات المتحدة. أما موقفه من الاسلام فكان عدائياً جداً خاصة بعد حادثة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن.
ورغم ان اكثر من ثلث مسيحيي الولايات المتحدة يدينون بالكاثوليكية، ورغم ان عدداً كبيراً من الكنائس الانجيلية الأخرى لا تشاطره الرأي، الا ان نفوذه الديني – السياسي كان طاغياً على الجميع. حتى انه اعتُمد لترؤس مراسم اداء القسم الدستوري لعدد من الرؤساء الأميركيين.. حتى أقعده مرض البركنسون والذي لازمه حتى وفاته.
مع ذلك تمكن غراهام من نشر دعوته في العديد من الدول الآسيوية والافريقية وحتى في بعض دول أميركا اللاتينية كالبرازيل التي تعتبر الخزان البشري للكاثوليكية، وذلك عبر «مبشرين متفرغين» حملوا رسالته وتعالميه الى تلك الدول.
كان غراهام صديق الرؤساء الأميركيين أو صاحب النفوذ «المؤثر فيهم»، يردد ان الله تحدث إليه (؟) في شأن عدد من القضايا.. ولكن عندما كان يُسأل عن هذه القضايا، كان يجيب: لم أعد أذكر!!..