بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الأول 2020 07:42ص الشرق ينتظر النبي الموعود

حجم الخط

 لم تكن سيرة مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنطلق من لحظة ولادته ونشأته ثم بعثته، وإنما هي مسيرة توالت إشراقاتها عبر آلاف السنين والعهود لتنبأ بولادة دين وظهور نبي موعود.

في صحراء العرب وفي واد محاط بين جبال جرداء قاحلة جاءت الإشارة الاولى لهاجر بالاستقرار في هذه البقعة مع ابنها اسماعيل لان من هذه الارض التي لا زرع فيها ولا ماء ولا نبات سيُبنى بيت يعظم فيه اسم الله ويُبعث نبي خاتم يهدي البشريةالى عبادة الله الواحد. وحتى يتحقق ذلك لا بد من ان تتدخل العناية الإلهية فينبع زمزم ليرتوي إسماعيل وليختلط الماء بالتراب فتنبت الارض شجراً ونباتاً وثمراً، فتكون مهبطاً للناس ومسكناً ومقاماً. وكان ان دعا ابراهيم ربه بأن يجعل من ذريته ذرية مباركة كما جاء في القرآن الكريم وأردف العهد القديم بأنه سيكون عدد هذه الذرية مثل عدد نجوم السماء.

استجاب الله لدعاء إبراهيم فوُلد لإسماعيل أثنتا عشر ولداً تفرعوا إلى اثنتي عشر قبيلة قطنوا مكة ثم انتشروا في أنحاء بلاد العرب إلى أن خرج من أصلابهم عدنان بعد أربعين جيل من موت إسماعيل، فكان عدنان مؤشراً ومعلماً أساسيا لسلالة العرب المستعربة الذين ينحدرون من إسماعيل يتحدد به بالعدد والحسب والنسب بلا أدنى شك ولا ريب كل السلالات اللاحقة، ثم خرج من هذه السلالة أبناء كنانة ومنهم فهر بن مالك بن النضر الذي عرف بشجاعته فلقب بقريش، ثم توالى الأبناء الى أن خرج منهم أبناء عبد مناف: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم، فكان لأبناء عبد شمس الزعامة والتجارة ولأبناء هاشم خدمة الكعبة والحجيج.

.. ذرية عددها كنجوم السماء ولكن إبراهيم دعا ربه أيضاً أن تكون هذه الذرية ذرية مباركة.. وكأن إبراهيم كان يخشى على ذرية إسماعيل على وجه الخصوص من الضياع بعده،فبعد أن تضرع الى الله بجعل ذرية إسماعيل واسحق مباركة، توجه الى حيث مقام إسماعيل فرفع معه قواعد الكعبة لتكون أول بيت يكرس لعبادة الله الواحد وشاهداً عبر التاريخ ومجريات الاحداث على العقيدة التوحيدية التي يجب ان تسير عليها ذريته من بعده.

طاف وهلل وكبر أبناء إسماعيل حول الكعبة ردفاً من الزمن وتعلموا اللغة العربية بعد أن هوت إليهم أفئدة الناس الوافدة من القبائل العربية إلى أن جاءهم بعد زمن طويل عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي فنصب الأوثان بعد اتصاله بوثنيي أهل الشام فلم يعد لهم مما ورثوه من أبيهم إسماعيل الا بقايا أفكار توحيدية وطقوس يطوفون بها حول الكعبة وهم يصفقون ويمرحون ويتسامرون.

وفي المطل الآخر نظر أبناءإسماعيل إلى أبناء عمهم إسحق تتوالى عليهم الأنبياء والرسل لتذكرهم وترشدهم وتحثهم على عبادة الله الواحد، وكأن ما حصل لأبيهم اسماعيل من طرد من بيت ابيه وخروج الى الصحراء القاحلةلم يكن كافيا، فلم يرسل الله لهم خلال آلاف السنين من يذكرهم ولا من يرشدهم ولا من يدلهم على أن خالق الأكوان وخالق الإنسان هو إله سرمدي واحد حي قيوم لا ينام ولا يجوع ولا يغفل ولا يسهو، إله واحد وليس آلهة متعددة مصنوعة من حجر إذا وقعت كُسرت أو من تمر في أزمان المجاعة أُكلت.

وكأنهم لم يدركوا بأن إبراهيم خصهم وحدهم دون أبناء إسحق بأمر آخر فبنى لهم البيت الحرام ليكون شاهداً عليهم بالتوحيد فحيث يتوقف الأنبياء والرسل عن بني إسحق يكون البيت قائماً لاستقبال النبي الخاتم الذي تختتم به الرسالات ويختتم به سلسلة الأنبياء.

ولكن طال انتظار أبناء إسماعيل لنبي يظهر من بين أضلعهم، فضجت بلاد العرب انتظاراً لمقدمه حيث لم يلح بالأفق لهم في حينها بوادر بعثته. وتوالت النصوص المقدسة الموحى بها الى الرسل عليهم السلام الذين سبقوا النبي الموعود، لتحمل في طياتها صفاته ومكانته ومكان بعثته، فقد جاء في العهد القديم وفي سفر الثتنية الآية رقم ثلاثة وثلاثون بأن نبي الله موسى جمع أبنائه قبل موته وأخبرهم بثلاثة تجليات إلهية يتجلى بها الله على البشر فقال لهم : جاء الرب من سيناء وأشرق في سائير وتلألأ في جبل فاران...فكانت الإشارة الأولى إلى هذا التجلي الإلهي الذي تحقق حين كلم الله موسى في الوادي المقدس بسيناء، والإشارة الثانية التي ستتحقق بظهور الملك جبريل على بتول تدعى مريم يبشرها الله بولادة المسيح عيسى عليه السلام، والإشارة الثالثة المنظورة تشير إلى حادثة ستحصل في جبل فاران – وهو جبل مكة - يتلألأ فيها جبريل ويملأ عنان السماء على رجل من أبناء مكة لإعلامه بأنه نبي ومرسل من الله الى البشرية جمعاء، فكانت هذه الإشارات الثلاثة (Théophanies)كما ذكر المستشرق الفرنسيCORBIN Henri هي إعلام وإعلان بظهور الديانات الثلاثة التوحيدية.

فإذا كانت الإشارة الأولى تحققت بكلام الله لموسى في الوادي المقدس بسيناء، والإشارة الثانية ببشارة مريم على أرض سائير بولادة المسيح ، إلا أن موسى ووالدة المسيح ينحدران من نسل إسحق، فهل ستحمل الإشارة الثالثة خبر حصرية النبوة في نسل إسحق، وهم الذين لم يبخل الله عليهم في إرسال الأنبياء والرسل ليبقوهم على دين التوحيد فكان منهم يعقوب و يوسف والأسباط الذين لم يذكر الله تعالى لنا أسماءهم والذين جاء من نسلهم موسى، ثم أيوب وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وزكريا ويحيى والمسيح عيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

أم أن الإشارة الثالثة والأخيرة ستكون في نسل أبناء إسماعيل الذين حرموا من الأنبياء ولم يأتهم داع السماء فأصبحوا عبدة أوثان وأصنام يقاتل بعضهم بعضاً ويسبى بعضهم نساء بعض، يدفنون بناتهم أحياء ويسرقون وينهبون. فهل نسي الله أبناء إسماعيل وهو الذي بارك ذرية إبراهيم جميعا؟ أليس إسماعيل من هذه الذرية المباركة؟

كان للعرب في حينها ثلاثمائة وستون صنما. إلا أن بعض حكمائهم نبذ عبادة هذه الأصنام حيث اجتمع رهط منهم في عيد من أعياد قريش الوثنية فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيّف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحقيقة. فمنهم من اعتنق المسيحية مثل ورقة بن نوفل ومنهم من لم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، ومنهم من وقف في عكاظ وأنشد قائلاً : إن في السماء لخبرا وان في الأرض لعبرا، يقسم قس قسما لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه.

ومع ذلك كله بقي منهجهم جميعاً منهجا فرديا لا يقوى على تحمل الرسالة ولا على تحمل تبعاتها ولا على الصبر على شدائدها بالإهانة والرشق بالحجارة حيناً وقتل الأصحاب والأتباع والطرد ومصادرة الأموال حيناً آخر ثم اعلان الحرب والإمعان في القتل والعدوان. بل ولا يقوى واحد من هؤلاء الحكماء في الصدح بالحق أمام جبروت الطغاة في مكة : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

كان المناوئون لعبادة الأصنام ينتظرون في مكة وفي مضارب البادية الخبر اليقين من السماء، وكان بعض أحبار اليهود والمسيحية ينتظرون داع من صحراء العرب يأتي بالنبوة بعد أن أشارت اليه كتبهم المقدسة، وكان الشرق كله كما كتب جواد بولس متلهف إلى إله أوحد تكون له المكانة العطمى كما كانت لمردوخ إله بابل في زمن حمورابي، وهو نفس هذا الشرق الذي كرس فيه موسى ونادى به المسيح عيسى لعبادة الله الواحد الأحد الخالصة حيث يكون التوحيد بأصفى صورة من صوره : إلها واحداً سرمديا صمداً. فكان لا بد من أن تكون الإشارة عند نبي يأتي من أبناء إسماعيل ليكمل الرسالات السابقة ويختتمها ويعيد إلى أبناء إسماعيل البركة والعدالة المفتقدة فلن يكون من بعد هذا النبي نبي آخر فبه يختتم الله الرسالات.

لن يكون النبي المنتظر هذه المرة من ذرية اسحق فيرضى به اليهود المعاندين، ولن يكون بنظر المسيحيين نبياً و رسولاً فبالمسيح اكتملت الرسالات فلن يرسل الله من بعده رسولا آخر يحمل خبر السماء الى الأرض. ولن يكون هذا النبي ساجداً ولا عابداً ولا مؤمناً بوجود آلهة متعددة يتشارك في عبادتها مع الله فيرضى به مشركو قريش. فلا بد أن يكون إذاً مؤمناً بإله واحد لا والد له ولا ولد أميناً وديعاً رؤوفاً رحيماً لا تغره الدنيا ولا الجاه ولا إغراءات الملك ولا يغره افتتان الناس به فيهدأ روع من يرتعش بلقائه ويقول له : هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة.

وجاءت الإشارات أخيراً الواحدة تلو الأخرى تنبأ بقدوم هذا النبي وتشير الى أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى الله النبي الموعود من بني هاشم. فها هو عبد المطلب ابن هاشم يقدم نذراً إلى الكعبة بالتضحية بابنه العاشر عبد الله ليكون ذبيحة خالصة لها وذلك تعبيرا عن شكره بإعادة حفر بئر زمزم الذي ردمته قبيلة جرهم، وقد أشار عليه أبناء مكة بالعدول عن ذلك ففداه بمائة من الأبل، فلقب عبد الله بالذبيح الثاني باعتبار أن إسماعيل الذبيح الأول.

وفي عهد عبد الله وبعد زواجه من آمنة بنت وهب ووفاته أثناء حبلها حصلت حادثة الفيل التي أرخ لها العرب والتي اندحر فيها جيش ابرهة وعاد مهزوما من حيث أتى بعد فشله في هدم الكعبة .. والإشارة هنا إلى أن أبرهة وجنوده كانوا على عقيدة المسيحية قبل البعثة فهم مؤمنون ولكن الله تعهد بالمحافظة على بيته الحرام ليكون للنبي المرسل شرف إعادته الى التوحيد ومنطلقاً للدعوة الى الدين الجديد.. وبالتالي ليس الهدم والتخريب من شيم الإسلام حين يفلح الإقناع والحوار بالتي هي أحسن.

ثم تتوالى الإشارات من ولادة النبي الموعود الى حين بعثته. فتضع آمنة زوجة عبد الله بن عبد المطلب ابنها بعد وفاة زوجها صبيحة يوم الإثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الأولى من عام الفيل على الأرجح وهو مايقابله يوم العشرين أو الثاني وعشرين من شهر نيسان سنة 571 ميلادية. وأثناء ولادته تقول أمه لمن حولها بأنها رأت نوراً أضاءت له قصور الشام، في حين أنه رافق لحظات ولادته إرهاصات تحمل خبر سقوط أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وأخرى تتحدث عن إخماد نار المجوس، وقد أخبر حسان بن ثابت بأنه سمع جماعة من اليهود تخبر بأنه في هذه الفترة سطع نجم أحمد النبي الموعود.

ولما ولدته آمنة أرسلت الى جده عبد المطلب تبشره بحفيده فانطلق به إلى الكعبة وشكر الله مستبشراً بولادته واختار له إسما لا عهد للعرب به فيما قبل فسماه محمد فهو محمد ابن عبد الله وهو محمد ابن الذبيحين إسماعيل وعبد الله، أفضل خلق الله وأحبهم إليه.

من سيرة ولادته نجدد الأمل ونستلهم العبر بأن نبي الإسلام رغم طفولته وقد عاشها يتيما محروما من حنان الأب والأم، ورغم شبابه الذي ابتعد فيه عن السمر واللعب كما يلهو كل الأبناء الذين هم في سنه، ورغم تصديه لرؤوس الكفر في مكة والطائف، ورغم الطرد والتشريد والجوع والفقر ..إلا انه كان أرحم الناس وأعطفهم وأكثرهم كرماً وصدقاً في القول ، وأوضعهم ...بل وقل وأحسنهم خلقاً...وصدق الله تعالى حين يقول عنه ( وإنك لعلى خلق عظيم).