حكايتي مع المئة ليرة تكاد تعود بي إلى الوراء ما يقارب تسعة وخمسين عاماً من الآن بالتمام والكمال، وقد كنت أبلغ في حينه العاشرة من عمري.
آنذاك لم أكن أدرك أن المئة ليرة تلك ستشكل بالنسبة لي علامة فارقة في ذاكرتي وحياتي، ودرساً قاسياً تعلمت منه الكثير.
أما لماذا عادت بي الذاكرة إلى تلك الورقة فلأسباب عديدة، لا سيما وأن ورقة المئة ليرة كانت في ذاك الزمن قد تربّعت على عرش التألق من دون منازع على الإطلاق.
قبل سرد القصة المريرة وحكاية المئة ليرة وما حدث معي في تلك الفترة، لا بدّ من الإشارة إلى أن مصرف لبنان أصدر مؤخراً ورقة نقدية جديدة من فئة المئة ألف ليرة (التي باتت تعادل في أيامنا هذه 12 دولاراً فقط ، في حين كانت قبل عام واحد من الآن توازي 60 دولاراً.
أما بالنسبة للمئة ليرة قبل 59 عاماً فكانت «بنت عزّ» ولها قيمتها ووهجها، وبتنا نتحسّر اليوم على القيمة الشرائية لليرة اللبنانية ونقول «رزق الله على أيام المئة ليرة».
لا بدّ أن ما حدث معي في الماضي يشبه إلى حدّ كبير ما يعانيه كل اللبنانيين خلال هذه الأيام مع منظومة حاكمة وسياسيين فاسدين، يشبه فسادهم وفسقهم خداع ومكر لاعبي الكشاتبين، وما أدراك ما لاعبي الكشاتبين والخطر الذي يشكلونه على النّاس الطيبين من خلال تلك اللعبة القذرة والتافهة التي تسطو على أموال ضحاياها بأيسر السبل وبطرق بهلوانية بعيدة كل البعد عن أي رادع أو وازع أو ضمير.
فهل تسنّى لأحدكم أن يطلع يوماً عن قرب أو عن كثب على لعبة الكشاتبين وأن يتعرف عن قصد أو عن غير قصد على لاعبيها، وما لها وما عليها من خطورة تشبه الى حدّ كبير لعبة وممارسات من يتحكمون برقاب البلاد والعباد في وطن الأرز لبنان، وهم باتوا كأولئك اللاعبين الذين يسطون على أموال النّاس ويقامرون بمصائرهم ومصير الوطن ككل.
ذات يوم وليلة عيد الأضحى المبارك، أرسل والدي في طلبي وقال لي: أريد إعطاءك مئة ليرة لتذهب إلى السوق وتشتري بها ما تشاء من ملابس للعيد وحذاء جديد إلى غير ذلك مما تريده وتبتغيه مشترطاً عليَّ تحمّل هذه المسؤولية وعدم إضاعة المئة ليرة أو التفريط بها في غير مكانها لأي سبب كان. والتقيّد بما أوصاني به بحذافيره.
أخذت من الوالد - رحمه الله - المئة ليرة شاكراً إياه، وكدت لا أصدق ما تراه عيناي وما تلمسه يداي وذهبت مسرعاً إلى غرفتي أنظر وأحدّق بالمئة ليرة مرات ومرات، وكأني قد حصلت على ثروة ما بعدها ثروة، أضعها في جيبي حيناً، ثم أعود لأتفقدها من جديد.
إثر ذلك، توجهت مسرعاً إلى أقرب سيّارة إجرة لتقلّني من منزلنا في برج البراجنة إلى وسط المدينة بيروت لأشتري ثياب وحذاء العيد، وأذكر أنه في حينه كانت إجرة السرفيس «ربع ليرة» أي 25 قرشاً لبنانياً فقط لا غير، ذهاباً ومثلها إياباً. وعلى طول الطريق كنت أضع يدي في جيبي لأحفظ المئة ليرة كي لا تضيع مني.
المحطة الأولى لي بعد وصولي إلى «المدينة» كانت أمام واجهة أحد محال الأحذية المعروفة، قرب ما يسمى بساحة اللعازارية، وفي حين كان نظري يجول على تلك الواجهة بأحذيتها الجديدة لإنتقاء الأجمل منها لشرائه، كنت أتفقد المئة ليرة،أرفعها حيناً من جيبي ثمّ أعيدها إليها من جديد.. وهنا بدأت القصة حيث يبدو أن أحد لاعبي الكشاتبين المخضرمين شاهدني كما شاهد المئة ليرة في يدي ولو للحظات معدودة، فسارع إلى افتراش الأرض مع شلة من الشبان الآخرين وتجمهروا حول «شرشف» وسخ افترشوه على الأرض. وبدأت اللعبة، وأخذ التصفيق والصراخ «والهوبرة» تعلو مرفقة بكلمة «برافو» إلى غيرها من الكلمات التي تستقطب السامعين إليها.
لم أجد نفسي إلا وقد اقتربت من تلك المجموعة لكي أرى ما يحدث ولماذا تلك الجمهرة، وبالتالي ما هي تلك اللعبة التي يمارسونها، وقد أفسحوا المجال لي بالتقدم نحو ثلاثة شبان يجلسون علىالأرض ويمارسون تلك اللعبة، وفجأة سألني أحدهم وكان يضع في أصابع يده عدداً من الكشاتبين، «أين هو الزر» والزر هو من عدّة الشغل بالطبع، بداية قلت له لا أعرف، ثم ألحّ عليَّ مراراً وتكراراً بالسؤال مضيفاً ماذا ستخسر إن قلت ؟ ولم أكد أشير إليه بيدي مرجحاً مكان وجود الزر حتى صاح بسرعة البرق «برافو» وأودع في جيبي عشر ليرات، وأعاد الكرَّة مرّةً وإثنتين وثلاثاً .. حتى كدت لا أصدق ما يحدث معي.
بعد ذلك، بدأ الجد، فأخذ يربحْني العشر ليرات مرّة ويخسرني بعدها أضعافاً مضاعفة منها وهكذا دواليك، حتى خسرت كل ما ربحته منه إضافة إلى المئة ليرة طبعاً.
وبلحظات وبسرعة غادروا المكان مع «عدة الشغل، فيما وقفت أنا لا أدري ماذا أفعل، وإلى أين أتجه، وبدأ الخوف والقلق ينتابني متسائلاً كيف يُمكن لي العودة إلى المنزل وبتُّ لا أملك حتى إجرة الطريق، وماذا سأقول لوالدي ووالدتي عن كل ما حصل معي، خاصة أن الوالدة كانت صارمة جداً معنا تجاه ارتكاب أي خطأ كالذي ارتكبته.
هنا لم أجد نفسي إلا وقد توجهت إلى محل العم زكريا الكائن في آخر نزلة درج ما كان يُعرف بخان البيض، وهو كان من أنسبائي، فوجدته يقفل باب محله استعداداً للعودة إلى منزله، فبادرته بالتحية وبدأت بالبكاء، فوجئ بالأمر وسألني لماذا تبكي ونحن في ليلة عيد؟ فأخبرته ما حدث معي بالتفصيل، وكان العم زكريا من قبضايات ذاك الزمن والمشهود له بالشهامة وحسن السيرة والأخلاق الحميدة، وكان يضع على خصره مسدساً (مرخصاً من الدولة، ورزق الله آنذاك كان في دولة). بعدها أمسكني بيدي ورحنا نفتش عن أولئك الشبان في ذاك المكان ومحيطه، فلم نجد أثراً لهم هناك، هنا ازداد خوفي وقلقي بينما العم زكريا يهدّئ من روعي. بعدها قال لي «مهلاً ما عليك»، تعالَ معي إلى أحد المقاهي الذي يوجد فيه عادة شبان يدمنون على لعب القمار والميسر وربما نجدهم هناك. فعلاً توجهت برفقته إلى ذاك المقهى في ساحة البرج الذي كان يعج بلاعبي الورق، وما إن دخلنا المقهى حتى شاهدت الشبان الثلاثة يلعبون بالورق على إحدى الطاولات، فأكدت له أنهم هم من أخذوا مني المئة ليرة. قال لي: قف هنا ولا تتحرك وتوجه نحوهم شاهراً مسدسه، وقال لأحدهم مهدداً أعطني المئة ليرة، وعندما حاول الشاب نكران معرفة ما حصل صفعه العم زكريا صفعة أوقعته أرضاً ووضع المسدس في رأسه وقال له: هات المئة ليرة وإلا.. فيما هرب رفاقه كلٌّ في غير اتجاه وساد الهرج والمرج في المقهى في تلك اللحظات، عندها أخرج الشاب ورقة المئة ليرة من جيبه وأعادها إلىالعم زكريا، الذي عاجله بصفعة أخرى وتوجه نحوي وغادرنا المكان بعد أن أعاد لي المئة ليرة، فعادت الروح إليَّ في ليلة العيد، وشكرته على ما فعله وقام به تجاهي راجياً منه عدم إخبار والدي ووالدتي بالأمر، خوفاً من العقاب الصارم، وفعلاً وفى الرجل بوعده ولم يبُحْ بالسر على الإطلاق، وقد رحل عن هذا العالم ـــ رحمه الله ـــ ورحل سرِّي معه.
فهل لنا أن نقارب حكايتي مع المئة ليرة والعم زكريا ولاعبي الكشاتبين مع ما نعانيه اليوم في هذا البلد من واقع مأساوي، يشبه مصير اللبنانيين ولبنان نتيجة ممارسات الطبقة الحاكمة الفاسدة التي يمارسونها دون رحمة أو خوف أو تمييز بين الحلال والحرام.
أما المئة ليرة تكاد تشبه أموال المودعين اللبنانيين التي سطا عليها السياسيون والمصارف في لبنان وهُرِّبت إلى الخارج لإيداعها في حساباتهم الشخصية وحسابات أسرهم هناك، وهم قد سطوا على تلك الأموال بالشراكة والتواطؤ في ما بينهم، بعد خداع النّاس وتقديم حوافز مغرية لهم، منها منحهم فوائد خيالية عالية لحثهم على إيداع أموالهم في مصارفهم ممَّا شجع الكثيرين من المغتربين والمقيمين على إيداع كل جنى العمر في تلك المصارف، إيماناً منهم بأن ملاذهم الأوّل والأخير يبقى لبنان، ولم يخطر على بالهم يوماً أنهم سيقعون ضحية تلك المنظومة السياسية والمصرفية في لبنان، وماذا عساهم يقولون اليوم بعد أن وصل بهم الأمر إلى حافة الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي، وإلى من باستطاعتهم اللجوء إليه، ومن أين ستأتي بالعم زكريا لإعادة الحق إلى أصحابه، وما دور وعمل العم زكريا في حينه إلا كدور التدقيق الجنائي «الذي هشلوه» من لبنان قبل أن يكشف المستور ويسمي الأشياء بأسمائها ويعيد الحقوق إلى أصحابها.
تبقى الإشارة إلی أن ما حصل معي خلال هذه التجربة المريرة كان بمثابة درس قاسٍ لي، تعلمت منه الكثير، لا سيما عدم المغامرة في أي عمل قد أقدم عليه دون أن أحسب له ألف حساب، على أمل أن يكون ما يحدث مع اللبنانيين جميعاً درساً وعبرة للتمييز بين الصح والخطأ وعدم الإنجرار وراء أي زعيم أو مسؤول أو سياسي فاسد في البلد ينساقون وراءهم على «العمياني» وعلى طريقة «بالدم، بالروح نفديك يا...»
أذكر أنه لدى عودتي إلى المنزل في تلك الليلة سألني الوالد أين أغراض العيد ولماذا لم تُحضر معك شيئاً منها، أجبته أنه لم يعجبني أي شيء وأفضّل أن احتفظ وأخبئ المئة ليرة إلى العيد القادم. وهكذا حصل، وكل عيد والكل بخير.