لا أحد من اللبنانيين، ينظر إلى حكومة الرئيس حسان دياب على أنها المسؤولة عن تركة الديون، والتعثرات المالية والفساد والسرقات، وكل الموبقات التي عصفت، أو نجمت عن النظام المالي والسياسي والاقتصادي، في لبنان.
إذاً لا حاجة بين الفينة والفينة أن يندفع رئيس هذه الحكومة، أو وزير أو وزراء، لتأكيد ما هو معروف، ومسلّم به، إنما المشكلة العويصة في هذه الحكومة، هو كمّ الانفصال عن الواقع، والاستغراق في أنماط من «النرجسية»، و«نوستالجيا» تعويض النقص... فينصرفون إلى هوامش الأمور... غير آبهين بأولويات الحياة الضرورية، ومفاتيح إنعاش الدورة الاقتصادية، التي لا تعالج بزراعة «البقدونس» أو «الكوزبرة» أو بعض الخسّات، على شرفات المنازل، أو الأحواض الصغيرة، في المنازل الريفية، المستقلة أو المشتركة.
إن التحولات الكبرى التي عصفت بالتطورات الاقتصادية، وبناها التحتية والفوقية، ونظم الإنتاج والتوزيع والتبادل، وتقسيم العمل الدولي... والثورات العارمة من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية، فثورة المعلومات والاتصالات، وصولاً إلى الثورة الرقمية، ليس من السهل الانفصام عنها، والتلاعب بالكلمات، والأحكام الزائفة، التي لا تسمن ولا تعني من جوع.
وأياً كانت هوية النظام الاقتصادي اللبناني، من التجارة إلى الخدمات، والمغتربين، ودور الوسيط، كل ذلك، ليس هو الحساب الذي يمكن أن يعتمد عليه، في إعادة فهم ما جرى ويجري، أو بناء استراتيجيات قادرة على السير في إعادة البناء من جديد.
ليس من السهل، لبلد هش، وهزيل البنية الإنتاجية والاقتصادية أن يمتشق سيف الرجال، ويقول للعالم الغربي، وللولايات المتحدة الأميركية: هل من مبارز... وأن يذهب باتجاه مجابهة، لا مكان له فيها، بعدما أثبتت الوقائع أن دولاً كبرى، على المسرح الدولي، تصكّ ركابها من جراء انعدام الدولار أو قلّته، أو السير بعقوبات اقتصادية أو ما شاكل.
من هذه الوجهة، لا بد من إعادة بناء مسار مغاير لما يجري... والخروج من حالة «المبارزة الداخلية» على خلفية أن الحكومة مستهدفة، والإقلاع عن إشباع المواطن، مواعيد هوائية، حول السلع، والأسعار، والدولار، والأجور، وجائحة كورونا، والودائع السليبة في «المصارف الخائبة» التي تحصنت ضمن صفائح الحديد، المضاد للرصاص، وقنابل المولوتوف الحارقة، خشية من غضب مُودع، سُرقت أمواله في وضح النهار، وعلى مرأى القوانين والأعراف، وحتى النظام الاقتصادي الليبرالي الحر، بسريته المصرفية، وتدفق الودائع إليه، من كل حدب وصوب.
إذا كان التوجه إلى صندوق النقد الدولي، هو الطريق الضروري والطبيعي، والذي لا بديل له، لعدم الوقوع في الهاوية، فإن معطيات المفاوضات في الأسابيع الستة الماضية، لم تحمل تباشير «أمل» للبنان، لاعتبارات بعضها يتعلق بتخلف لبنان عن سداد ديونه، مما جعل سندات لبنان الدولية التي يجري بالفعل تداولها، عند بعض أدنى مستويات السندات السيادية في العالم تتكبد مزيداً من النزول، إذا استمر الوضع من دون دعم من صندوق النقد وتنفيذ الإصلاحات (تقرير تليمر يوم الجمعة الماضي).
وبعضها يتعلق بعدم جدية الوفد اللبناني المفاوض، والذي على الرغم من الخلافات حول أرقام الخسائر، فإن أحد أعضاء الوفد اللبناني كشف ان المفاوض الدولي، طلب توقف المفاوضات، لأنه لم يلمس جدية من الوفد اللبناني، لجهة الإصلاحات المطلوبة.
على أن الأخطر، في هذا السياق، يتعلق بانصياع وفد الحكومة إلى رغبات الطبقة السياسية، التي ووفقاً لتقديرات ممثلي صندوق النقد، إذا خيّرت بين «موت لبنان» الدولة، والنظام والشعب ومصالحها الخاصة، فهي تؤثر مصالحها على الصالح العام.
يتجه صندوق النقد إلى تبني أرقام الحكومة التي تقدر بـ241 ألف مليار ليرة، في حين أن لجنة تقصي الحقائق النيابية تقدر أن الخسائر تتراوح بين 60 أو 91 ألف مليار.
والأنكى في لعبة «المصالح المتصارحة» أن الطبقة السياسية الممثلة بالبرلمان، تتصرف على طريقة «صراع الثيران»، فهي ترمي بكل ثقلها من اجل فرض نفسها كطرف رئيسي في المعادلة، ولو على حساب أية منافذ للإصلاح العام، من شأنه أن يخفف من تداعيات الأزمة الحادة التي تعصف بالبلاد والعباد.
ومن هذه الوجهة، تتحوّل الطبقة السياسية، التي يُنظر إليها، دولياً، بأنها تجيّر مجلس النواب لخدمة مصالحها، على حساب مصالح الشعب، وتمسك بأوراق اللعبة من زاوية، ممارسة نشاط هائل للحؤول دون حصول الإصلاحات، لأن هذه الإصلاحات فيما لو طبقت، فإنها تضع الطبقة المالية والسياسية في قفص الاتهام مباشرة، وتفقدها بالتالي أوراق التلاعب بالرأي العام، والتحكم بخياراته، عبر التوظيف، والخدمات المباشرة للأزلام والمفاتيح.
من المثير للاهتمام الاقتناعات التي توصلت إليها المؤسسات المالية، سواء الدبلوماسية (الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان كوبيتش) أو المالية النقدية (ممثلو صندوق النقد الدولي)، فضلاً عن منظمات حقوق الإنسان، أن الإصلاحات، بالكهرباء، أو القطاع العام، أو التلزيمات، من شأنها أن توقف نظام المحاصصة، والعمولات الهائلة على المشاريع العامة، فضلاً عن الفساد، والتضخم العام في البلد.
في الوقائع القائلة إن نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، و35٪ من القادرين على العمل هم في طور البطالة الآن، فضلاً عن فقدان الرواتب أكثر من 90٪ من قوتها الشرائية، بين انهيار سعر الليرة، وارتفاع الأسعار، إذ ناهز سعر الدولار الواحد 9 آلاف ليرة.
تنفي الطبقة السياسية إنكارها، أنها هي المسؤولة عن الأزمة، وتلعب على مسرح التفاوض مع الصندوق، الذي يشترط تدقيقا مالياً جنائياً في حسابات المركزي، وتقييداً لحركة الرساميل، وإصلاحاً لقطاع الكهرباء، الذي انتهى إلى تقنين قاس بالتغذية، وسط منازعات قضائية، عطلت فحص الفيول، وحتى استيراده، وفقاً لوزير الطاقة، ريمون غجر الذي أتحف طوال الأسبوعين الماضيين اللبنانيين بوعود، لم تصدق حول عودة التيار، وتحسن التغذية.
في بلاد بلا كهرباء... لا حاجة لبحث أي أمر، قبل وضع الكهرباء على سكة الحلول الجذرية، والانتقال من حال سيئة إلى جيدة، قبل فوات الأوان... فيكفي أن تعالج الحكومة ملف الكهرباء حتى يُقال إنها حكومة المعجزات!