بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 حزيران 2020 12:02ص الهجوم على مخافر طرابلس إنذارٌ شديد الخطورة

إعادة التطرّف تبدأ باستهداف المؤسّسات الأمنية

حجم الخط
 
قدَرُ طرابلس أن تكون على خطوط النّار وأن تواجه دائماً نتائج التحوّلات الدولية والإقليمية منذ نشأة لبنان، مروراً بسنوات الحرب، ثم حصار النظام السوري وتدميرها على رؤوس أهلها في الثمانينات، مع بقاء مجزرة التبانة عالقة في الذاكرة وعصيّة على النسيان.. ورغم حلول السلم الأهلي عانت الفيحاء من جولات القتال مدفوعة من المحور الإيراني، وتلقّت آخر الأثمان الثقيلة بتفجيري مسجدي التقوى والسلام.

ومع ثورة 17 تشرين 2019 ارتدت طرابلس ثوبها الوطنيّ الحقيقي وغسلت ما علق بها من لوثات وتشويه فغدت عروس الثورة وملهمة اللبنانيين في حركتهم الاعتراضية على سلطة السلاح والمال، لكنّ هذه الثورة تعرّضت وتتعرّض لثورةٍ مضادة، هدفها خنقُ حركة الشعب وتيئيسه من إمكانية التغيير. وكان لطرابلس نصيبها من الثورة المضادة، فوضعت بعض الأجهزة يدها على ساحة النور، ودفعت بالمجموعات المرتبطة بها إلى الشارع، مما أدّى إلى تراجع مشاركة النُّخب في التحرّكات الشعبية وهيمنة مجموعات بعضها ثوري ويعضها الآخر ضدّ الثورة وضدّ الناس. 

صراع السياسيين أحرق المصارف

هذه الوقائع كشفتها أحداث الشهور والأسابيع الأخيرة. فعمليات إحراق المصارف في 28/4/2020 التي وقعت إثر استشهاد فواز السمّان، غرّد المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش على حسابه عبر «تويتر» حولها قائلاً: «إن الأحداث المأساوية في طرابلس التي تواجه فيها المتظاهرون غير السلميين مع الجيش اللبناني، والتي أدّت إلى استشهاد متظاهر ووقوع إصابات من الطرفين، ترسل إشارة تحذير للقادة السياسيين في لبنان - هذا ليس الوقت المناسب لتبادل تصفية الحسابات أو الاعتداء على البنوك، بل إنها اللحظة التي يتعين فيها توفير الدعم الملموس للأغلبية المتزايدة من اليائسين والفقراء والجوعى من اللبنانيين في جميع أنحاء البلاد».

صوّب المسؤول الدولي سهامه على الصراعات السياسية واعتبرها مسؤولة عن هذه الاختراقات في الشارع، لكن الأسوأ كان عدم توقيف أيّ معتدٍ على المصارف، واقتصار دور الجيش والقوى الأمنية على «حماية» المصارف بعد احتراقها..

توالت أشكال الفوضى في المدينة، فأصبحت ظاهرة إطلاق النار ورمي القنابل ليلاً شبه يومية، وسط صمتٍ غريب من القوى السياسية والأمنية على حدٍ سواء، وكأنه لا يحدث شيء في الشارع، مع حصول بعض التوقيفات التي تنتهي بخروج الموقوفين بعد بضعة أيام.

إلاّ أنّ الأخطر من هذا كلّه هجوم مجموعات غير ثورية، من المشاغبين المرتزقة على السرايا وعلى مخفري التلّ والسويقة وسط ترويجٍ لاستهداف بقيّة المخافر في المدينة، وإسقاط الحماية الأمنية الفعلية والمعنوية التي تشكلها قوى الأمن الداخلي للمواطنين.

ترويج إعلامي لاقتحام المخافر

واللافت للانتباه قيام موقع «بيروت سيتي» بتغطية مباشرة للهجوم على مخفري التلّ والسويقة في طرابلس ليل السبت 6 -6 – 2020، بالترافق مع حملة شيطنة سافرة لقوى الأمن الداخلي ورميِها باتهامات القمع والعجز والجُبْنِ، ووصف التغطية للمهاجمين بـ«الثوار أصحاب الإرادة» والإشادة بإصرارهم على الاقتحام ومواصلة التهجّم على المقرّ الأمني وتوسيع نطاق الاستهداف إلى كلّ مخافر طرابلس، واعتبار هذا الاقتحام «فعلاً ثورياً» يستحقّ الدعم والإشادة.

عمد المذيع إلى الخلط بين الغضب النّاجم عن توجيه الشتائم إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبين ما قال إنّها نقمةٌ على طريقة تعامل القوى الأمنية مع المتظاهرين خلال مظاهرة يوم السبت الماضي، لتبرير الهجوم على المخفر، بينما كان لافتاً أن كُثـُراً ممّن أسماهم مذيع «بيروت سيتي» بالثوّار المحتجين على شتم السيدة عائشة رضي الله عنها، يوجّهون الشتائم على الهواء إلى العزّة الإلهية ويكرّرون هذه الشتائم خلال الهجوم على مخفر التل.

أعلن المذيع أكثر من مرّة أنه لن يُقرِّب الصورة بحيث تظهر وجوه المعتدين على المخفر «حتى لا تُعرف هوياتهم وتلاحقهم الجهات الأمنية، حرصاً على سلامتهم واحتراماً لطلباتهم»، وكأنّ الثورة أصبحت أعمالَ شغبٍ ومجموعاتٍ سريّةً خارجة على القانون، بينما كان يروِّج بأنّ الهجمات ستطال كل مخافر طرابلس.

ركّزت مادة البثّ المباشر على «تقريع» وإهانة عناصر قوى الأمن وتصويرهم بمظهر الخائف المرتعد العاجز، وهذا ما تكرّر عشرات المرّات: «أكثر من خمسين عنصراً من عناصر الدرك يختبئون خوفاً من حجارة الثوار.. الثوار لم يرتدعوا، لم ينفع معهم أصلاً الترهيب بالرصاص، على العكس عناصر الدرك التي تختبئ خوفاً من الحجارة».

شَنّ مذيع «بيروت سيتي» حملة عنيفة على قوى الأمن الداخلي، فـ«عناصر الدرك غيرُ قادرين على حماية مركزهم، ومن الطبيعي جداً أن لا يقدروا على حماية البلد والمواطنين». وفي وقت آخر يقول: «عناصر الدرك موجودون داخل المخفر يختبئون ويحتمون بالجيش. ورغم التعزيزات، فشلوا في حماية أنفسهم، لم يصمدوا أمام حجارة الثوّار، مما اضطرّهم للاستغاثة مجدّداً بعناصر الجيش».

وأكمل المذيع في موجة تحريضٍ هستيرية: «عجباً من إصرار الثائر.. هذا الإصرار، عدم الخوف، الثائر مخيف فعلاً.. للسلطة، هناك ما يثير الاستغراب: ضابط برتبة رقيب يقوم برمي الحجارة.. هناك تهديد وصيحات تُطلق الآن من قبل عناصر الدرك، هناك محاولة من الثوار للاقتراب أكثر إلى بوّابة المخفر، ونسمع صوت «تلقيم» و«خرطشة» البنادق».. مع انزلاق لسانه في بعض الأحيان إلى وصف ما يجري بالاعتداء، لكنه اعتداء يحظى بالتأييد والتمجيد. 

وبينما حرص المذيع الفصيح على نقل الهتافات المضادة لقوى الأمن، ووصفهم بالشبيحة، كان يقول: «إنّ الساحة شهدت محاولات لتفريق المتظاهرين بالرصاص الحيّ أربع مرات..»، متجاهلاً أنّ إطلاق الرصاص كان دائماً في الهواء لفكّ الطوق عن المخفر، ومتلاعباً بالمشاعر والحقائق، فإذا ردّت قوى الأمن بالقوّة اتهمها بالقمع، وإذا تجنّبت استخدام الرصاص والعنف، يتهمها بالعجز».

كان التضليلُ سيّدَ الموقف: فقد زعم المذيع أنّ «هناك المئات من الثوار الطرابلسيين مصرّون على البقاء.. ساحة التل كبيرة ومكتظة بالثوار، ولكن لا يمكننا التقاط الصور لهم بطلب منهم لأنهم ملاحقون رسمياً من قبل قوى الأمن الداخلي، فحفاظاً على سلامتهم نحن نحترم هذا الطلب».

والحقيقة أنّ السّاحة كانت فارغة ولم يكن يتواجد سوى من يرشقون المخفر بالحجارة، وكان باستطاعة المصوِّر إظهار صورة عامة لـ«الحشد المزعوم» لكنّ دعايته التحريضية كانت مكشوفة، فالمعتدون على مخفر التلّ كانوا من خارج كلّ المجموعات الثائرة المعروفة في طرابلس، وكانوا تحت سمع وبصر الجيش، فكيف تسمح هيبة الجيش بإبعادهم فقط دون القبض عليهم، وهم يعتدون على المخفر، بينما إذا خُدشت بدلة عسكريّ خلال مشادّة في الشارع مع الثوار يصبحون معتدين على هيبة الدولة!

إعادة إحياء التطرّف؟

يحصل هذا بالتوازي مع الاستمرار في ضخّ تسريباتٍ عن دخول عناصر متطرّفة إلى الشمال وتحديداً إلى طرابلس، وممّا لا شكّ فيه أنّ التجارب السابقة تدفع للقلق. فمجموعات «فتح الإسلام» امتدت إلى المدينة، وتمكنت بعد تدمير مخيّم نهر البارد من الخروج الآمن بعد إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» أن المخيّم خطٌ أحمر.

من هنا، يصبح استهداف المخافر أمراً شديد الخطورة، ولا يمكن تمريره باعتباره حدثاً عابراً، لكن ما يثير الاستغراب، عجز الجيش وقوى الأمن الداخلي عن القبض على مهاجمي السرايا ومخفري التلّ والسويقة، من يحمي هؤلاء ويمنحهم الحصانة ويعطيهم القدرة على ضرب المؤسّسات الأمنية، من دون أن يحاسبهم أحد؟!

إذا كان من مشروعٍ جديدٍ للتطرّف في البلد، فإنّه سيبدأ من ضرب المؤسّسات الأمنية الشرعية في طرابلس، ومنها إلى كلّ لبنان، فهل يعي المسؤولون ما نحن مقبلون عليه، أم أنّ على قلوبٍ وعقولٍ أقفالُها؟