بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تموز 2020 12:02ص بيروت من مجاعة الحرب العالمية الأولى الى كارثة القرن الـ21

حجم الخط
مع إنتصاف العام 2020، يقف اللبنانيون أمام مفترق طريق وجودي، جراء أخطر أزمة إقتصادية ومعيشية تعصف بالبلاد، مما أعاد الى الأذهان ما كان قد ذكره الأجداد حول أهوال الأزمة التي عصفت بولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان والأقضية الأربع، التي شكلت لبنان بحدوده الحالية، إبان الحرب العالمية الأولى .

وتكاد تكون الأزمة الحالية التي تمر بها بيروت تحديداً، هي الأخطر منذ أزمة الحرب العالمية التي ضربت المدينة وقتها، وقد ساهمت عدة عوامل في إشتداد تلك الأزمة منها : حصار الحلفاء لميناء بيروت، غزو الجراد، إصدار اوراق نقدية جديدة و المجاعة المفتعلة .

وقد شهدت سواحل مدينة بيروت خلال العام 1914، تواجد عدد كبير من سفن الحلفاء، وكانت تلك السفن تقوم بتفتيش البواخر القادمة الى ميناء بيروت، وما لبث الحصار البحري أن إشتد عندما بدأت الغواصات الألمانية بالحضور الى ميناء بيروت ليلاً بهدف التموين ونسف سفن الحلفاء، فقام الحلفاء بتشديد حصارهم البحري لميناء بيروت، ورغم ذلك كانت المساعدات تصل الميناء البيروتي، عبر الغواصات الألمانية، وقام الحلفاء أيضاً بإستعمال طائراتهم الحربية للإغارة على المواقع العسكرية في محيط ميناء بيروت .

أدى ظهور الجراد الى تفاقم الأزمة الإقتصادية والمعيشية في بيروت، وعبثاً حاول أهالي بيروت مقاومته، فكان مؤشراً سيئاً على الخطر القادم . 

أما على الصعيد النقدي، فقد كانت العملة المتداولة في بيروت، كما سائر الولايات العثمانية، الليرة العثمانية الذهبية، والتي كانت تساوي 100 قرش ذهب، كما كان يتم التداول ايضاً بالمخمسة العثمانية التي كانت تعادل خمس ليرات عثمانية ذهبية، في حين كانت الليرة الإنكليزية الذهبية تساوي 110 قروش، أما الليرة الفرنسية الذهبية فكانت تساوي 95 قرشاً .

الى جانب تلك العملات، إنتشرت الخيرية المصرية وكانت تساوي 250 قرشاً والجهادي كان يساوي 50 قرشاً و الغازية القديمة وكانت تساوي 30 قرشاً والغازية الجديدة وكانت تساوي 20 قرشاً والمحمودي وكان يساوي 15 قرشاً .

كذلك إنتشرت العملة الفضية، من الريال المجيدي الى الريال الرشيدي، وقيمة كل منهما 800 بارة، كذلك إنتشرت القطع المعدنية الممزوجة بالفضة مثل الزهراوي والبرغوت الكبير و البرغوت الصغير وجهادي الفضة والغرش والزلطة .

كما إنتشرت إضافة الى ما تقدم، العملة النحاسية والنيكلية، من البشلك الى متليك نحاس و متليك النيكل و نصف متليك .

وفي العام 1915، قمات نظارة المالية ( وزارة المالية)، بإصدار أوراق نقدية جديدة بقيمة ستة ملايين وخمسماية وثلاثة وثمانين الفاً وأربع وتسعين ليرة عثمانية، تعادل قيمتها مائة وخمسين مليون فرنك ذهب، وأجبرت الأهالي بها لتحل محل العملة الذهبية والفضية، لتبدأ قيمة النقود الجديدة بالإنخفاض حتى بلغت عام 1918، حوالي ستة غروش لليرة الواحدة التي حددت الدولة قيمتها بمائة غرش .

كما تم طرح كميات كبيرة من المارك الألماني والكورون النمساوي، وأسرع المضاربون لشرائها بقيمتها الإسمية، لتعود وتتدنى اسعارها تدريجياً لتفقد قيمتها .

دعا جمال باشا الصيارفة الى الإمتناع عن المضاربة باسعار النقد، وهددهم بالعقاب، وذلك في شهر نيسان من العام 1917، وقد تم نفي أحد تجار بيروت لأنه باع أوراق نقدية بثلاث وسبعين بالمئة  أقل من قيمتها الأصلية .

أدى إنخفاض قيمة النقد الورقي، الى إرتفاع أسعار البضائع، ووقعت خسائر كبيرة لحاملي الأوراق النقدية، كما للذين أودعوا أموالهم في المصارف، كما للذين أقرضوا غيرهم من الأفراد .

شكلت المجاعة أخطر مظاهر الأزمة التي حلت ببيروت خلال الحرب العالمية الأولى، فكانت الحبوب تباع بأثمان باهظة، وتزايد عدد الفقراء في شوارع المدينة، ولتدارك الأزمة تلك، عمد الوجهاء في بيروت الى محاولة تخفيف من أثر المجاعة، فأسسوا شركة لإستيراد الحبوب من ولاية دمشق، كما بادر رئيس البلدية عمر الداعوق الى الى شراء كمية من الطحين وقام بتوزيعها على رؤساء الطوائف بسعر الكلفة، مما أدى الى وضع حد لإحتكار التجار .

أدت الأزمة في متصرفية جبل لبنان، الى نزوح عدد كبير قاطني الجبل الى بيروت للإنضمام الى متسوليها، وكان إصدار العملة الورقية الجديدة قد ساهم في إرتفاع الأسعار، وتدنت أسعار العقارات وهبط سعر الحرير لإستحالة تصديره الى أوروبا، وإعتبر محمد جميل بيهم أن فقدان النقود الصغيرة كانت مصيبة من مصائب الحرب الكبرى، علماً بأن الأزمة الإقتصادية قد بدات مطلع العام 1915، عندما تعرقل شحن الحبوب الى بيروت وجبل لبنان، بسبب وضع سكة الحديد بتصرف القوات العسكرية، ومع إستمرار الحرب كانت الأسعار ترتفع، نتيجة إنخفاض قيمة النقد الورقي .

أصبحت مشاهد المرضى والجياع والموتى، مألوفة في شوارع بيروت، والأولاد يفترشون الرض عند ابواب الأغنياء، بإنتظار فتات الموائد، كما كثرت حالات دفن الموتى، وإنتشرت الأوبئة والأمراض، لكن دائرة الصحة في البلدية تكمنت من حصر تلك الأمراض، وكان لافتاً ما قام به رئيس البلدية عمر الداعوق عندما قام بإفتتاح إثني عشر مطعماً في رأس بيروت، لتقديم الطعام للنازحين نحو بيروت هرباً من الجوع، وقد وصف عبدالله المشنوق المجاعة في بيروت قائلاً :» ... وكانت مأساة الجوع في بيروت ولبنان، ورأيت ذات يوم رجلاً ملقى على الرصيف قرب العازارية وهو يئن وينادي : جوعان، جوعان .. وحين رجعت بعد قليل لم اسمع الأنين ... فإقتربت منه فإذا هو قد مات، ففرت مسرعاً الى بيتنا في برج أبي حيدر . وكان والدي تاجراً كبيراً عند القمح والسرك والسمن، فسطا الوالي على البضائع ,,ونفي والدي مع فريق من التجار والوجهاء الى أضنة « .

كل هذه العوامل مجتمعة، ساهمت في الأزمة الإقتصادية التي عصفت ببيروت ولبنان، خلال الحرب العالمية الأولى، والتي إنتهت بإنتهاء الحرب الكونية، رغم إستمرار مضاعفاتها لفترة من الزمن، على أمل أن لا تتكرر تلك المشاهد التي أخبرنا به الأجداد، في عصرنا الحالي وأزمتنا المتفاقمة، رغم أن المشاهد اليومية المتكررة، وسوء إدارة الأزمة تنذر بالأسوأ .

 ( محام بالإستئناف – ماجستير في التاريخ )