بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 حزيران 2020 01:08ص تأثيرات التحويلات النقدية

حجم الخط
منذ قرون ينتقل الانسان من دول الى أخرى للعمل وجني الأموال وتحويلها جزئيا أو كليا الى دول المنشأ. توزع العمال دوليا يساهم في تقريب مستويات التنمية، ومن المستحيل مهما بلغت قدرات الدول المستقبلة أن تمنع قدوم العمال اليها. كذلك الأمر بالنسبة للدول التي تخسرهم والتي لا يمكنها منع الطموحين الراغبين في عيش أفضل من المغادرة. لبنان من الدول التي عرفت التحويلات النقدية بسخاء بالاتجاهين. هنالك مئات الألوف من اللبنانيين الذين يعملون في الخليج العربي وأفريقيا وغيرها ويحولون مليارات الدولارات سنويا الى لبنان. في نفس الوقت يستضيف لبنان ألوف العمال الذين يعملون في المنازل ومحطات الوقود وقطاعي الزراعة والانشاء وغيرها وبالتالي يحولون هم الأموال من لبنان الى دولهم. انتقال العمالة من والى الدولة ليس جديدا لا في لبنان ولا في غيرها من دول المنطقة. قيمة التحويلات الآتية الى لبنان تقدر بمعدل 6 مليارات دولار سنويا أي حوالى 10% من الناتج المحلي الاجمالي، وبالتالي مؤثرة جدا على مستوى المعيشة وميزان الحساب الجاري. مهم جدا دراسة هذه التحويلات بأرقامها ومصادرها والتي تؤثر كثيرا على الدول المستفيدة أي على كل دول المنطقة.

تشكل التحويلات النقدية ركيزة أساسية للتنمية في الدول ذات الدخل المتوسط وما دون. هنالك تحويلات نقدية كبيرة تتم من الدول الصناعية الى الناشئة والنامية، كما هنالك تحويلات تتحقق داخل المجموعة الثانية أي ضمن أفريقيا وآسيا مثلا. التحويلات مهمة لتسيير النمو الاقتصادي في دول المصدر ولتمويل عمليتي التنمية والاستهلاك في الدول الحائزة عليها. ترتفع التحويلات بسبب الحاجة الى العمالة التي لا تتوافر عموما الا في الدول الناشئة والنامية. الدول الأوروبية تحتاج الى استيراد العمالة من الشرق الأوسط وأفريقيا وبالتالي تسهل عمليات الهجرة اليها من وقت لآخر تبعا للتوقيت والحاجات. طبعا قدوم ألوف المهاجرين عبر البحار دفعة واحدة يضر بالرغبة في الاستقبال الأوروبي وتكلفته، اذ من الطبيعي أن ترغب الدول المضيفة في استقدام العمالة في العدد والتوقيت المناسبين وليس أن يفرض عليها ذلك عبر المرافق. يساعد هذا التدفق البشري الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة المعادية للمهاجرين فتجعلهم يسيطرون على السياسة في دولهم عبر الانتخابات.

تحتاج الولايات المتحدة بدورها الى العمالة الأميركية اللاتينية لتنفيذ عمليات البنية التحتية كما تحتاج الى الخبرات الأسيوية المميزة لمختبراتها وجامعاتها ولتنفيذ عمليات البحث والتطوير. تحاول ادارة الرئيس ترامب تقييد الهجرة اليها مهما كانت الأسباب، ولا بد للمحاولات المتكررة من أن تنجح حتى لو لم تكن في مصلحة الاقتصاد الأميركي. في سنة 2016، فاقت التحويلات النقدية عالميا مبلغ الـ500 مليار دولار، منها 40 مليار دولار الى دول الصحراء الأفريقية أي ما يشكل 3% من ناتجها الاجمالي. في 2017، وصلت قيمة التحويلات الى 596 مليار دولار بينها 450 مليار دولار الى الدول النامية.  من المستحيل معرفة القيمة الحقيقية الكاملة للتحويلات لأن قسما كبيرا منها يتم نقدا أو بين أفراد العائلات خلال الزيارات. الهدف ليس فقط التهرب الضريبي لكن تجنب العمولات الباهظة التي تفرض عليها والتي ترتفع من دولة الى أخرى. في كل حال، تشكل هذه الأموال ركائز مهمة لحماية الاقتصادات النامية من الخضات كما لتمويل استهلاك الأسر التي تحصل عليها من أبنائها وبناتها العاملين في الخارج.

تحصل دولة طاجيكستان على أعلى نسبة من التحويلات في العالم أي 40% من الناتج ويتبعها العديد من الدول الآسيوية والأفريقية. في القيمة، نيجيريا هي الدولة التي تحصل على أعلى تحويلات نقدية في العالم أي 22 مليار دولار تتبعها بنغلادش وفيتنام. ما هي التأثيرات الايجابية للتحويلات النقدية على الدول التي تحصل عليها؟

أولا: تساهم التحويلات في رفع مستوى المعيشة أي في زيادة الدخل والانفاق والقدرة على تسديد الديون العامة التي تعاني منها أكثرية الدول الناشئة والنامية. ترتفع الايرادات الضرائبية المباشرة وغير المباشرة وبالتالي تتحسن أوضاع الموازنات.

ثانيا:  تساهم التحويلات في زيادة الادخار عند الأسر وبالتالي ترتفع الودائع المصرفية وتنخفض تكلفة تمويل الاستثمارات التي تعاني منها كل الدول الناشئة والنامية.

ثالثا:  بسبب النهوض الاقتصادي الذي يتبع عموما قدوم التحويلات النقدية، يرتفع الطلب على النقد وبالتالي تشكل تحد كبير للمصرف المركزي لادارة عملية العرض تجنبا لاحداث تضخم مضر بالاستقرار العام.

رابعا:  تسمح التحويلات بتوزيع الاستهلاك عبر الوقت أي تسهل على الأسر تنظيم استهلاكها وليس الانفاق دفعة واحدة. التحويلات هي مصدر للاستقرار ولديمومة العيش الكريم المبني على حصول هذه الأموال المهمة دوريا من الخارج.  التحويلات المرتفعة تعني عموما استقرارا أقوى ومخاطر أقل.

قدر عدد المهاجرين بـ258 مليون شخص في سنة 2017، منهم 234 مليونا فوق سن الـ15 ومنهم أيضا 164 مليونا للعمل. بين المهاجرين للعمل، 96 مليون رجل و68 مليون امرأة. نعلم جميعا أن ليس هنالك ايجابيات فقط في أي عملية اقتصادية وبالتالي لا بد من وجود سلبيات لهذه التحويلات الكبيرة.

أولا: انخفاض الحافز على العمل وبالتالي تدني الانتاجية.  بسبب الحصول على التحويلات المجانية، يرتفع مستوى الاتكالية وبالتالي تحصل زيادة في اللهو ويضيع الوقت. يؤثر هذا الواقع على انتاجية الانسان الذي يعتاد على الكسل والتأجيل وانتظار المال المجاني بدل العمل.

ثانيا: تؤثر هذه التحويلات على سعر صرف العملة الوطنية أي تسبب ارتفاعها بسبب زيادة الطلب. التأثير على الصادرات يصبح سلبيا فتنخفض الايرادات الآتية من الخارج لتمويل الميزان التجاري والحساب الجاري.  في نفس الوقت ترتفع الواردات بسبب تحسن سعر الصرف مما يضر بالتوازنات الخارجية.

ثالثا: تؤثر التحويلات سلبا على مستوى الأجر الذي يقبل به العامل بسبب حصوله على المساعدات الخارجية. ترتفع الأجور وبالتالي ترتفع تكلفة الانتاج وربما البطالة. يصبح العمل نوعا من الترف أو البزخ ولا يعد واجبا يجب على كل انسان أن يختبره غنيا كان أم فقيرا.

رابعا: بسبب توافر التحويلات من الخارج، تخف عزيمة الحكومة لايجاد مصادر تمويل لعملياتها الداخلية الاجتماعية والاستثمارية وبالتالي تؤثر على انتاجية الدولة والحوكمة والشفافية. التحويلات تخفف الحافز للاصلاح والتطوير والتحديث.

اذا قارنا الايجابيات بالسلبيات، يتبين لنا أنه من الصعب جدا تقييم الفارق بينها الذي يمكن أن يكون ايجابي أو سلبي. لذا تأثير التحويلات النقدية على الاستقرار الاقتصادي العام أي على الاستهلاك والادخار والاستثمارات كما على الانتاجية والنمو غير واضح ويختلف بين دولة وأخرى أو بين مجتمع وآخر. ما العمل لتقوية التأثير الايجابي بشكل يفوق التأثيرات السلبية المحتملة؟

أولا: تنويع مصادر التحويلات بهدف الاستقرار.

ثانيا:  بناء المؤسسات العامة القوية لتخفيف المخاطر وتجنب السلبيات الكبيرة أي خاصة ضعف الانتاجية وارتفاع تكلفة الانتاج.

ثالثا: اعتبار الأموال القادمة ظرفية، وبالتالي بناء الاقتصاد على سواعد الداخل تأمينا للاستمرارية ولدوام البحبوحة.