بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 نيسان 2019 12:38ص تدخُّلات الخارج وأدواره في حرب لبنان 1975-1990 (2/2)

حجم الخط
تقوم فرضيةُ هذه الورقة على أنّ المجتمع اللبناني التعددي المنقسم على نفسه، يتعرّض باستمرار للتوترات والحروب الداخلية، في ظلّ طائفيتين مجتمعية وسياسية، وأيديولوجيات متنافرة، ودولة ضعيفة لا تمسكُ بشعبها ولا تصنع قرارها بنفسها. من هنا، فإنّ مأساوية الجغرافيا السياسية والحالة المجتمعية والنظام الطائفي وهشاشةَ الدولة، كانت ذات تأثيرات كارثية في مصير الكيان والسيادة، وجعلتهما عرضة لتدخلات الخارج.
وتنشر «اللواء» هذه المقالة على حلقتين:
وفي ما يلي الحلقة الثانية:

صراع إسرائيلي – سوري وإفشال اتفاقين متضادين 17 أيار والاتفاق الثلاثي
تحت مظلّة «اتفاق الخطّ الأحمر»، لم تكتف إسرائيل منذ العام 1976 بدعم «الجبهة اللبنانية» تسليحًا وتدريبًا، بل عملت على غزو لبنان خلال العامين 1978 و1982، وقامت في التاريخ الأخير بمجازر، بعدما حاصرت عاصمته بيروت واجتاحتْها مع مخيماتِها الفلسطينية – اللبنانية بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية وإقامة نظام حليف لها في لبنان، وبالتالي ضمه إلى مثلث السلام تلّ أبيب – القاهرة. وقد حُسمت الحرب سريعًا، وجرى إجلاء المقاومة الفلسطينية والوحدات السورية من بيروت، وتنصيب حزبِ الكتائب على لبنان بموافقة أميركية – سعودية، وقبول غالبية القوى التقليدية الإسلامية برئاسة الجمهورية لبشير الجميل وبعده لشقيقه أمين. كلّ ذلك تزامن مع انتهاء شهر العسل السوري – الماروني وتعديل إسرائيل سياستِها تجاه لبنان بعودة التحالف بينها وبين «الجبهة اللبنانية» منذ العام 1977؛ فوقعت أحداث الأشرفية صيف العام التالي، وفشل في العام ذاته مؤتمر بيت الدين برعاية السعودية، فيما انسحبت قوات الردع الخليجية من لبنان العام 1979، تاركة الساحة للسوريين. 
شكل اجتياح بيروت قمةَ الفشلِ للسياسات العربية، وأبانَ بوضوح حجم الخلافات بين موسكو وواشنطن. ونتج عنه ظهور المقاومة اليسارية ثم الإسلامية ضدّ الاحتلال الصهيوني في الجنوب. وقد فشل مشروع ريغان لإحلال السلام في لبنان وسحبِ الجيوشِ الأجنبية منه تمهيدًا لتحقيق السلام في المنطقة. وفي ظلّ نظام كتائبي فئوي وسياسة كلّ من إسرائيل وسورية، ارتفع منسوب الخلافات والتقاتل بين اللبنانيين، خصوصًا بعد نجاح إسرائيل في فرض اتفاق 17 أيار المدعوم أميركيا وسعوديا، وتشكيلِ سورية، الحاصلة على دعم السوفيات، جبهة عسكرية لإفشاله مع بقايا الحركةِ الوطنية وأتباعها من الزعماء التقليديين؛ رشيد كرامي وسليمان فرنجية. وبعد الانسحاب المنفرد لإسرائيل من الجبل العام 1983 ومن شرقي صيدا العام 1985، على وقع التقاتل الدموي، عقد مؤتمرا جنيف ولوزان 1983/1984 برعاية السعودية لحلّ الأزمة اللبنانية، من دون تحقيق نتائج تُذكر على الأرض، فيما استُهدف مقرا المارينز الأميركيين والمظليين الفرنسيين من قبل انتحاريين قربَ مطار بيروت قيل إنّ أحدهما إيران الجنسية. فرد الفرنسيون بقصفٍ جوي لمواقع الحرس الثوري الإيراني في البقاع. كانت عملية المطار وتأسيس حزب الله، رسالةً من إيران بأنها أصبحت لاعبًا جديدًا على الساحة اللبنانية. 
ردّت إسرائيل والولايات المتحدة على إفشال سورية اتفاق 17 أيار بإفشال «الاتفاقِ الثلاثي» أواخر 1985 الذي رعته دمشق لشرعنة وجودِها في لبنان. وقد رعت السعودية الاتفاق الأخير في الخفاء، فيما هندسه رفيق الحريري الذي كانت عينه على الرئاسة الثالثة. وشكلّ الاتفاق انقلابًا كاملًا على الخيارات الداخلية والإقليمية والدولية للقوات اللبنانية وللفريق الماروني، وأدّى إلى حدوث انقسام في داخل القوات اللبنانية. أما عن سبب معارضة الولايات المتحدة للاتفاق، فهو انفراد سورية به، في حين كانت واشنطن تريد ربط موافقتها عليه بموافقة دمشق على ترتيبات أمنية بين إسرائيل ولبنان. من هنا، كان موقف واشنطن وتلّ أبيب من الاتفاق رسالة منهما إلى دمشق بوجوب الوصول إلى اتفاق مع مسيحيي لبنان، وليس رعاية صدام دموي في لبنان. أما الاتحاد السوفياتي، فحرّض سوريا على عدم تقديم التنازلات للولايات المتحدة.
وتعتبر الأوضاع منذ العام 1984 الأكثر وبالًا على لبنان؛ انقسام الجيش اللبناني للمرة الثانية كرد على سياسة الجميل للسيطرة على غرب بيروت (انتفاضة 6 شباط 1984)؛ دخول قادةِ الميليشيات إلى الحكومات اللبنانية؛ الصدامات بين ميليشيات الصف الواحد في المناطق الغربية والشرقية وطرابلس والجنوب والضاحية الجنوبية – وهذا جعل الوحدات السورية تعود إلى بيروت الغربية مطلعَ العام 1987، على وقع حرب المخيمات (1985 – 1987) التي تخللتْها اشتباكات دموية بين حركة أمل وحزب الله؛ في الجنوب أولًا، ثم في الضاحية الجنوبية التي دخلتْها الوحدات السورية بالتنسيق مع الإيرانيين للفصل بينهما في أيار 1988.
مقدمات اتفاق الطائف
اتسمت المرحلة بين الأعوام 1985 و1989 بالأوراق والمبادرات الداخلية والخارجية لحلّ الأزمة اللبنانية، وفي مقدمها المحاولات الفاشلة لمصالحة الأسد والجميل، عقبَ وقوفِ الأخير ضدّ «الاتفاق الثلاثي»، وعدم انقلابه على جعجع المتهم باغتيال الرئيس رشيد كرامي. فقام أتباع سوريا بمقاطعة الرئيس اللبناني. لكن سرعان ما حصل توافق سوري – أميركي على رئاسة مخايل الضاهر للجمهورية، ودخول المناطق الشرقية في صراع على خلفية القرار المسيحي، بين القوات اللبنانية وقائد الجيش ميشال عون، الذي استطاع أن يفرض نفسه رئيسًا لحكومة انتقالية، بعدما فشل الجميل في الحصول على موافقة سوريا لتمديد ولايته. فانقسمت البلاد إلى حكومة في الشرقية تتبع الجنرال ميشال عون، وأخرى في الغربية تابعة للسوريين برئاسة سليم الحصّ.
وعلى عكس فرنسا، كانت واشنطن ضدّ وصول عون إلى الرئاسة الأولى، انطلاقًا من قناعاتِها باحترام مصالح إسرائيل وسوريا في لبنان، وتفضيلها «السلم السوري» على «الفوضى اللبنانية» التي تسبب فيها عون. من هنا، دعمت واشنطن الحلول التي تفضي إلى تحقيقِ السلام واستقرار الحُكم في لبنان.
ثمةَ عواملُ خارجيةِ كثيرة مهدت لاتفاقِ الطائف: انتهاء الحرب الباردة العام 1985 في عهد غورباتشيف، وقيام السوفيات بالانفتاح على منطقة الشرق الأوسط، وإنهاء الوضع المتفجر في لبنان؛ تأثير الانتفاضة الفلسطينية، منذ أواخر العام 1987، في الولايات المتحدة التي تقدمت بمقترحات لحلّ الأزمة اللبنانية تقوم على توازن جديد للسلطة، بتقليص صلايحات رئيس الجمهورية وإلغاء الطائفية السياسية. لكن الموارنة رفضوها. أما الدولُ العربية، فخشيت من نتائج انشطار الحكومة اللبنانية والفراغ الرئاسي، وشنِّ عون حرب التحرير ضدَّ سورية وحربِ الإلغاء ضدّ جعجع، وتدخلِ العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية في الأزمة اللبنانية داعمًا عون بهدف مناوأة سوريا، ورد دمشقْ بمحاصرة المناطق المسيحية وقصفها بلا رحمة. 
لذا، قامت جامعة الدول العربية بمبادرة لحلّ الأزمة اللبنانية. وكانت واشنطن تريد وقفَ إطلاق النار وانتخابَ رئيس للجمهورية وليس إخراج السوريين من لبنان، وتفضل التعريب على التدويل، على عكس فرنسا التي أرادت أن ينخرط مجلس الأمن بالمسألة اللبنانية. وكان واشنطن تعتقد أنّ نفوذها وإملاءاتها على دول الخليج العربية، وعلى السعودية بالذات، سوف تمكنها من حسم الأمور لصالح سوريا. وقد أملَ الفرنسيون، بأنْ تمكّنهم التغييرات في أوروبا الشرقية من تفعيل دورهم في لبنان واستعادة نفوهم عبر ميشال عون. من هنا، اتهمت باريس دمشق بتحويل لبنان إلى قاعدة للإرهاب وتجارة المخدرات، وكذلك فعل الفاتيكان، بالقول إنّ سوريا تقوم بإبادة المسيحيين. لذا، قام الأسطول الفرنسي بتظاهرة قبالة لبنان في آب 1989؛ لتخويف السوريين والبعث برسالة إلى الأميركيين حول مصالح بلاده التقليدية في لبنان. لكنها لم تحقق نتائج، وتحولت إلى مبادرة إنسانية.
اتفاق الطائف: نتائج وتداعيات على استقرار لبنان وسيادته
أسفرت اجتماعات النوابِ اللبنانيين في الطائف عن اتفاق حولَ توازنٍ جديد للسلطة لن ندخلْ في بنوده، أو في سبب عدم تطبيق إلغاء الطائفية السياسية. كان بند إلغاء الطائفية السياسية ليس للتنفيذ بالنسبة إلى سوريا وأتباعها اللبنانيين، بل لتخويف المسيحيين المعارضين لسياستها وترويضهم، في كلّ مرّة يطالبون فيه بخروج الجيش السوري من لبنان واستعادة سيادته. وقد اضطرت الجامعة العربية للرضوخِ للضغوط الأميركية، بالتساهل مع سورية في موضوع تموضع قواتها في لبنان إلى البقاع بعد سنتين، بدلًا من شهورٍ ستة، بعد أنْ تكونَ الحكومة اللبنانية قد استكملت خطوات وإجراءات دستورية. والأهم من ذلك، أنّ الترويكا العربية أذعنت لإرادة سوريا بأنّ الحكومتين اللبنانية (الضعيفة) والسورية تتشاوران في شأن كيفية إعادة التموضعِ. وفي 13 تشرين الأول 1990، انهت سوريا بعملية عسكرية سريعة، بموافقةٍ أميركية – إسرائيلية – عربية، ظاهرة عون الذي غادر البلاد إلى فرنسا، تاركًا جيشه في الميدان ليستسلم للسوريين أو يُقتل على أيديهم في اليرزة. 
ومنذ ذلك الحين، دخل لبنان في دائرة الوصاية السورية بموافقة العرب والمجتمع الدولي. ولم تلتزم «اللجنة الثلاثية العربية» بموضوع مراقبة إعادة التموضع السوري، أو تلاعب سوريا باتفاق الطائف. وفي ضوء هيمنة سوريةٍ على لبنان لا سابق لها في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وخضوع الحكومات اللبنانية المنصّبة من قبلها لنفوذها، لم تتجرأ حكومة لبنانية على الطلب منها سحبَ قواتِها؛ فبقيت سوريا مهيمنة على البلاد حتى اغتيال الرئيس الحريري، فيما أبدى المسيحيون مقاومة للاحتلال السوري منذ العام 2000، ولحق بهم جنبلاط والحريري تدريجيًّا منذ العام 2003، إثر صدور قانون محاسبة سوريا على أفعالها في لبنان نهاية العام الأخير.