بيروت - لبنان

6 كانون الثاني 2024 12:01ص تهافت السلام وحلّ الدولتين

حجم الخط
كتب الرئيس فؤاد السنيورة رئيس الوزراء الأسبق، في صحيفة «واشنطن بوست»، مقالة يتكلم فيها على الصراع في غزة؛ حيث صرّح أنه قد تكون نهاية الحرب هي بداية السلام مع إسرائيل، منطلقاً من مبادرة الجامعة العربية التي طُرحت، سنة 2002 في بيروت، فقال: «لقد كان العالم العربي على استعداد لصنع السلام منذ أن اقترح مبادرة السلام العربية، في بيروت، عام 2002، ولا يزال هذا الالتزام حيًّا، إلى يومنا هذا، ومن ثم ينبغي على إسرائيل أن تتحيّن هذه الفرصة، وأن تستهل بذلك حقبة جديدة في الشرق الأوسط»، ثم تابع قائلاً: «إنه من الممكن تجنّب إشعال فتيل حرب أوسع نطاقاً، فقبل 7 أكتوبر، اتفقت إسرائيل وحزب الله على قواعد اشتباك ضمنية أبقت حدود إسرائيل مع لبنان هادئة نسبيًّا، وشهدت قيام حزب الله بتسهيل اتفاق بحري مع إسرائيل»، مشيراً إلى أنه «في الوقت ذاته يتعيّن على الإسرائيليين أن يدركوا أن أفضل علاج للتوسع الإيراني هو حل الدولتين مع الفلسطينيين».
إن ما طرحه الرئيس السنيورة يحتاج إلى التوقف عنده، ولكن، قبل ذلك، لا يمكن أن ننكر أن الرجل رجل دولة ومحنك سياسيًّا ولديه تجربة طويلة في السياسة الداخلية والإقليمية؛ حيث كان رئيس الحكومة، زمن حرب 2006، ولكن للأسف، فإن حرب طوفان الأقصى أوقعت الكثير من الساسة والمثقفين في الفخ التاريخي، ذلك أن حدث اليوم مختلفٌ تماما عما سبق من الحروب مع العدو الإسرائيلي، وبسبب ضخامة هذا الحدث فإن تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي يُكتب من جديد، وميزة هذه الحرب أنها غير رمادية، فهناك الحق وهناك الباطل، وليس هناك أمورٌ متشابهات، في ما بينها. لقد كتب الغزالي كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة» سنة 1095؛ حيث شنّ هجومه على الفلاسفة داعياً إياهم أن تبقى اهتماماتهم في المسائل القابلة للقياس والملاحظة، فكلمة تهافت تعني التساقط، وهذه الكلمة قد تنطبق على الكثير من المثقفين والساسة والأقلام التي لا تنفك تكتب في بعض المغالطات التاريخية المنافية للواقعية السياسية.
ما عبّر عنه الرئيس السنيورة ليس رأيه الشخصي؛ فحسب، إنما رأي شريحة واسعة ما زالت تتسع في الأوساط النخبوية العربية الحاكمة التي ما زالت، رغم كل ما حصل، تفكر في هذه الطريقة التقليدية، وما لفت انتباهي القول إن هذا السلام المنتظر وتحقيق إقامة الدولتين سوف يعيقان التمدد الإيراني.
لم تدرك النخبة الحاكمة، حتى يومنا هذا، أن التمدد الإيراني ليس سببه غياب السلام أو عدم إقامة دولتين في فلسطين المحتلة، إنما بسبب عدم قيام أي مشروع حضاري في المنطقة العربية، منذ سقوط الدولة العثمانية إلى اليوم. فالطبيعة لا تقبل الفراغ بكل تفرعاتها، والجزء الأهم هنا العلوم الإنسانية والسياسية منها بالأخص. فالتمدد الإيراني والبطش الإسرائيلي متلازمان بعضهما ببعض، فالقوى العربية السنية في المنطقة، عندما تخلّت عن المقاومة ومفهومها ضد المحتل الغاشم، رفعت إيران ذلك الشعار، وتسللت إلى الفراغ العربي تستغلّه تحت ظلّ ذلك الشعار، فدخلت العراق وسوريا واليمن ولبنان. وكيف دارت الحال فإن إيران دولة لها تاريخٌ طويل في المنطقة وهي جزء من المنطقة ولا يمكن إنكار ذلك، وما زالت تحلم بإقامة دولتها التاريخية أي الدولة الفارسية؛ ولكن بحلّة جديدة. إيران تحمل منطق الاستعمار، وهذا منطقي جدًّا، ولكن ما هو غير منطقي تقاعسنا واللجوء إلى الأميركي وغيره من أجل حماية حدودنا وصيانة مصالحنا وأرضنا التي تحتاج منّا وحدنا إلى التضحية وتقديم الغالي والرخيص في سبيلها.
إذا افترضنا أننا استيقظنا صباحاً ولم يعد هناك إسرائيل في المنطقة، ماذا سوف يحصل؟ سوف يولد مشروع إسرائيلي ثانٍ وثالث لأننا لم ننتج مشروعاً حضاريًّا قادراً على تكوين كيانات سياسية مستقلة لديها ثقافتها المستقلة وسيادتها التي لا تتجزأ ولا يتمركز فيها مفهوم الطائفية السياسية.
هل يعقل أننا نريد أن نقيم السلام مع إسرائيل كي نمنع الإيراني من التمدد في المنطقة؟ وأريد أن أسال، كيف لنا أن نتكلم على السلام مع دولةٍ لا تعرف إلّا القتل والدمار وهي دخيلة على المنطقة تاريخيًّا وتراثيًّا ولغويًّا وثقافيًّا؟ حتى يومنا هذا، ليس هناك أي بحثٍ علمي يثبت أحقيتهم في الأرض إنما الأحقية للشعب الفلسطيني. فإن التكلم عن حل الدولتين يعني الاعتراف بأحقيتهم التاريخيّة، كما أريد أن أسأل أيضاً سؤالاً آخر، تخيّلوا لو أن مجموعة من الناس دخلوا منزل، وسيطروا عليه، واحتلوه، ثم يأتي طرفٌ ثالث يطالب بتقسيم المنزل إلى منزلين، فهل هذا منطقي؟ حتى إسرائيل المغتصبة للأرض والتاريخ لن تقبل بمبدأ حل الدولتين. فكلام نتنياهو واضح، هو نادم على أوسلو، من ناحية، والحكومة الإسرائيلية شنّت هجوماً حادًّا على حركة فتح والسلطة الفلسطينية التي أبرمت معها اتفاقية سلام في أوسلو من ناحية ثانية، ونعتتها بفتحستان. اُنظروا ماذا يحلّ بالفلسطينيين في الضفة الغربية من اعتقالات وقتل بالجملة دون أي سبب؛ حيث لا وجود لحماس هناك.
إن السلام الذي يتكلم عليه الجميع هو بعيد المنال؛ إذ كيف يمكنك أن تطلب التفاوض مع النمر ورأسك بين فكيه، فالسلام لا يُطلب بل يُفرض، والفرض لا نملكه ليس بسبب ضعفنا إنما لأننا لا نريد أن نملكه. اليوم المطلوب هو الضغط بالوسائل كافة من أجل وقف حمام الدم الذي سببه العدو الإسرائيلي حصراً وليس أحدٌ سواه، والكلام عن السلام هو حديث خرافة يا سادة، لا يصدر عن أي إنسان عاقل قرأ تاريخ بني إسرائيل جيداً، منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا، فالثابت الوحيد عندهم هو القتل والخراب والدمار ولا شيء سواه. البعض يعتبر التحرير مستحيلاً في وقتنا الراهن، ولكن هذا المستحيل كان واقعاً في التجربة الجزائرية، وفي التجربة الليبية والمغربية وغيرها من تجارب الاحتلال والاستعمار، ولكن علينا قراءة التاريخ جيداً وإدراك نقطة مفادها أنه مهما طال الزمن فإن الأرض لأصحابها فقط.