اهتم الملك فيصل بن عبد العزيز بالقضية الفلسطينية، وشارك في الدفاع عن حقوق فلسطين عالمياً، وجاء في خطابه على منبر الأمم المتحدة العام 1963«ما بددّ السلام في المنطقة العربية هو القضية الفلسطينية وظهور إسرائيل». ومن سياسته التي اتبعها حول هذه القضية عدم الاعتراف بإسرائيل، وإنشاء هيئة تمثل الفلسطينيين، وإشراك المسلمين في الدفاع عن القضية.
وأثناء تولّيه منصب وزارة الخارجية عام 1932 طالب بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية رداً على قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين.
وعلى الرغم من الخلافات بينه وبين الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إلا أنه بعد حرب 1967 وعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم تعهد بتقديم معونات مالية حتى تزول آثار الحرب. ومن كلماته المأثورة قوله «الحياة علّمتني أن تسامح الأخ مع أخيه هو أكبر قيمة من انتصار المدافع والسيوف».
كان للملك فيصل جملة شهيرة وهي «الدم العربي أم النفط العربي»، وعمل جاهداً كي تستخدم الدول العربية البترول كسلاح لتحقيق الضغط، فاتخذت قراراً بإعلان الحظر التام للنفط الذي تحصل عليه الولايات المتحدة.
على الأثر زاره وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، حيث تم الاستقبال داخل مخيم قصيّ خارج الرياض. وقد قال الملك فيصل مقولته الشهيرة آنذاك وهي: «عشنا وعاش أجدادنا على التمر واللبن وسنعود لهما».
تحدث كيسنجر في مذكراته التي كتبها عام 1973، حيث قال ان الملك استقبله فيصل متجهماً غاضباً وكأنه لا يريد أن يقابله، فحاول كيسنجر أن يقوم باستفتاح حديثه بالمداعبة السياسية فقال: «إن طائرتي تقف هامدة في المطار بسبب نفاذ الوقود؛ فهل تأمرون جلالتكم بتموينها؛ وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرّة». حينها لم يبتسم الملك بل رفع رأسه بكل عزة قائلًا: «وأنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت؛ فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية».
أجرت محطة بي بي سي البريطانية مقابلة مع الملك فيصل، ووجه المذيع سؤالاً: «أود ان أسأل جلالة الملك ما هو الحدث الذي ترغب في أن تراه يحدث الآن في الشرق الأوسط»؟ فأجاب الملك: «أول كل شيء زوال إسرائيل».
في مذكراته، نشر معروف الدواليبي وهو سياسي سوري معروف في العالم العربي والإسلامي، نصّ الحوار الذي دار بين الملك فيصل والرئيس شارل ديغول.
قال ديغول: يتحدث الناس أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر. إسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع. فأجابه الملك فيصل: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك، إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلّبتَ عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالمية ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ. فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع. والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتلّه القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول «أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً».
فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل، ولكن ديغول لم يستسلم ويتراجع، وإنما غيّر لهجته متأثراً بما سمع، وقال: يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك. ردّ الملك فيصل: فخامة الرئيس أنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر غزاة فاتحين، حرّقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون. وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنجلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مائتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها. وهذا مثال تاريخي أيضاً.
قال ديغول: ولكنهم يقولون في فلسطين وُلِد أبوهم. رد الملك فيصل: غريب!! عندك الآن مائة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟!
هنا سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعياً رئيس الوزراء جورج بومبيدو، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج، وقال له: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل. وهكذا قُطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1956 قبل الغزو الثلاثي لمصر بأربعة أيام.
تحلّى الملك فيصل بالبساطة، والصدقية، والهمُّ الوطني، النزاهة، الرؤية والمسؤولية.
اغتيل يوم 25 آذار 1975، رحمه الله.
* كاتب وباحث.