بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تموز 2020 08:02ص جذور الحج في التراث الإبراهيمي

حجم الخط

عندما سمع ابراهيم ابو الأنبياء شكوى سارة ومطالبتها له بإخراج هاجر وابنها اسماعيل إلى صحراء فاران بعد أن أنجبت إسحاق، لم يبد أي امتعاض سوى أن شاح بنظره عنها ونظر عالياً ليسمع خبر السماء، فقال له الرب كما جاء في سفر التكوين 17 : ( و اما اسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه و أثمره و أكثره كثيرا جدا اثني عشر رئيسا يلد و أجعله أمة كبيرة)، فاطمأن إبراهيم وترك هاجر وابنهما يخاطران في سيرهما نحو صحراء فاران، فلا بد أن تأتي إشارة السماء لهما بالمكوث والاستقرار في البقعة المباركة، وهنا دعى ابراهيم ربه ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، "غير ذي زرع" حيث كانت قوافل العرب تمر بهذا الوادي القاحل دون توقف في رحلتها إلى بلاد الشام طلبا للتجارة وذلك لعدم وجود الماء. "عند بيتك المحرم" سواء كان أثراً مرتبطاً بهبوط آدم واندثاره في طوفان نوح، أو اعتبار دلالته لما سيكون عليه الحال في المستقبل، كما قال صاحب يوسف في شرح رؤياه (إني أراني أعصر خمراً)، أي أعصر عنباً ليصبح خمراً . وأياً يكن فلقد تحققت الإشارة حين فرغت القربة من ماءها وأصاب العطش إسماعيل وكادت هاجر تفقد صوابها فإذا بها رائحة غادية بين مرتفعين لتشهد من ينقذ ابنها من عطش الصحراء وما كادت تهبط حتى رأت عين الماء تتفجر من تحت قدمي اسماعيل. جاء في سفر التكوين 21 :

(فبكر ابراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع * ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار * ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس؛ لأنّها قالت لا أنظر موت الولد. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت * فسمع الله صوت الغلام. ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لكِ يا هاجر. لا تخافي لأنّ الله قد سمعَ لصوت الغلام حيث هو * قومي احملي الغلام وشدّي يدك به. لأنّي سأجعله أُمَّة عظيمة * وفتح الله عينيها فأبصرت بــــئر مــاء. فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام.)

أصاب هاجر الهلع من رؤية الماء تمتصه بنهم رمال الصحراء العطشى، فغرفت بكلتا يديها تزمّه زمّا كي لا يفيض وينساب في الرمال فشرب ابنها حتى ارتوت، وكان لا بد لها أن تفهم بأن تفجر الماء في الصحراء القاحلة هي الإشارة الأولى من السماء، (وكان الله مع الغلام فكبر – كما جاء في سفر التكوين، وسكن في الـــبرية وكان ينمو رامي قوس * وسكن في برية فــــاران).

في صحراء العرب وفي هذا المستقر الذي اختاره الله لهاجر وإسماعيل والمحاط بين جبال جرداء قاحلة صرخ قائد إحدى القوافل المتجهة إلى الشام فرحاً ليشير بيديه الى طيور تحلق وتغط في هذا الوادي القاحل، فلا بد من وجود ماء. توقفت القافلة فإذا بهاجر وإسماعيل قد ضربا خيمتهما بقرب الماء فاستأذنت القافلة هاجر في الإستراحة، وتبعتها بعد ذلك قوافل وقبائل أخرى، فأنبت الماء الارض اليابسة شجراً ونباتاً وثمراً، وأصبحت مهبطاً للناس وسكناً. وكان ان دعا ابراهيم ربه بأن يجعل من ذريته ذرية مباركة كما جاء في القرآن الكريم وسبقه العهد القديم مبشراً بأن الله سيبارك اسماعيل و يثمره و يكثره كثيراً جداً اثني عشر رئيسا يلد و يجعله امة كبيرة.

يأتى إبراهيم يوماً لزيارة إسماعيل وقد شب صبياً، فيجده يبري نبلاً له تحت دوحة بالقرب من زمزم، فيخبره بأمر الله ببناء الكعبة ورفع القواعد، فينهض إسماعيل وكله عزيمة لينفذ أمر الله في بناء البيت، فتراه يأتي بالحجر وإبراهيم يبني حتى أتما البناء، وفي كل مرة من مراحل البناء كانا يدوران حول البيت ، وهما يقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .

ثم يأتي خبر السماء برؤية إبراهيم في المنام أنه يذبح إبنه فأخبر إسماعيل بذلك فأجابه : (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، وفي طريقهما تبدى الشيطان ليوسوس لهما بعدم الإستجابة، فرجماه بالحجارة الى أن ولّى عنهما، فأقبل إبراهيم على ابنه ليذبحه فناداه صوت من السماء (أَن يا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ*).

استجاب الله لدعاء إبراهيم فوُلد لإسماعيل أثنتا عشر ولداً تفرعوا إلى اثنتي عشر قبيلة قطنوا مكة ثم انتشروا في أنحاء بلاد العرب ذرية عديدة كنجوم السماء ولكن إبراهيم دعا ربه أيضاً أن تكون هذه الذرية ذرية مباركة. وكأن إبراهيم كان يخشى على ذرية إسماعيل على وجه الخصوص من الضياع بعده، فكان بناء الكعبة لتكون أول بيت يكرس لعبادة الله الواحد وشاهداً عبر التاريخ ومجريات الاحداث على العقيدة التوحيدية التي يجب ان تسير عليها ذريته من بعده.

طاف وهلل وكبر أبناء إسماعيل حول الكعبة ردفاً من الزمن وتعلموا اللغة العربية بعد أن هوت إليهم أفئدة الناس الوافدة من القبائل العربية وتجمعوا حول زمزم الذي حوَّل الأرض القاحلة غير ذات الزرع إلى أرض ذات ثمر ورزق وفير، إلى أن جاءهم بعد زمن طويل عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي فنصب الأوثان بعد اتصاله بوثنيي أهل الشام فلم يعد لأجيالهم مما ورثوه من أبيهم إسماعيل الا بقايا أفكار توحيدية وطقوس يطوفون بها حول الكعبة وهم يصفقون ويمرحون ويتسامرون.

وفي المطل الآخر نظر أبناء إسماعيل إلى أبناء عمهم إسحق تتوالى عليهم الأنبياء والرسل لتذكرهم وترشدهم وتحثهم على عبادة الله الواحد، وكأن ما حصل لأبيهم اسماعيل من طرد من بيت ابيه وخروج الى الصحراء القاحلة لم يكن كافياً، فلم يرسل الله لهم خلال آلاف السنين من يذكرهم ولا من يرشدهم ولا من يدلهم على أن خالق الأكوان وخالق الإنسان هو إله سرمدي واحد حي قيوم لا ينام ولا يجوع ولا يغفل ولا يسهو، إله واحد وليس آلهة متعددة مصنوعة من حجر إذا وقعت كُسرت أو من تمر في أزمان المجاعة أُكلت. وكأنهم لم يدركوا بأن إبراهيم خصهم وحدهم دون أبناء إسحق بأمر آخر فبنى لهم البيت الحرام ليكون شاهداً عليهم بالتوحيد فحيث تنقطع النبوة والرسالة من بني إسحق يكون البيت قائماً لاستقبال النبي الخاتم الذي تختتم به الرسالات ويختتم به سلسلة الأنبياء.

ومرت السنوات تلو السنوات وتباعدت الأيام وظهر النبي الخاتم أخيراً وأعاد للكعبة وحدانيتها وأرسى مناسك الحج وقال مخاطباً المسلمين في حجة الوداع " خذوا عني مناسككم" فكانت مناسك الحج مرتبطة ارتباطا وثيقا بسيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل و السيدة هاجر عليهم السلام، فامتثالاً لطواف إبراهيم وإسماعيل عند بناء الكعبة أقر النبي طواف المسلمين في الحج، وامتثالاً لسعي هاجر للبحث عن الماء أقر النبي السعي بين الصفا والمروة، ومن اعتراض ابليس لابراهيم وابنه في سيرهما ورجمهما له، شرّع رمي الجمرات، ومن فداء الكبش لإسماعيل أقرت في الحج الأضحية، فكانت هذه المناسك استجابة لدعاء إبراهيم وإسماعيل : (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).