بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 كانون الأول 2019 12:00ص حرصاً على اللغة العربية

حجم الخط
 قديمةٌ قِدَمَ الشمس في إشراقها، غنيّةٌ حيّةٌ كالأرض في ربيعها، مهدُ الحرف، وأبجديةُ الكلمة ولغةُ السماء، ومِن شاطئها إبحارٌ إلى لججِ العلوم، اصطفاها الله لتكون لغةَ كتابه المقدّس، في البدء حملَتِ الحرف وكذلك حملت الرسالة السماوية ورسالة العلوم والثقافة. العربية من أمّهات اللغات، «اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة» حسب قول أرنست رينان. سجلَتْ أفكارَنا وأحاسيسَنا منذ أبعد العصور، كانت لغةَ الدينِ والعلمِ التجارةِ والسياسة، هي الرابطُ الجامعُ للأمّةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ ورمْزاً لوحدتِها. مرَّتْ بمراحلَ عدّةٍ حوَّلتْها عن مكانتها، وتناوبَ عليها أعداءٌ كُثر حتى أصبح أبناؤها أعداءها. 

  ولكتابِنا المقدس حقٌ على اللغةِ، إذْ استطاعَ أنْ ينقلَها مِنَ المشافهةِ إلى التدوين، ووحّدَها وساهمَ في إتساعِ أغراضِها، وانتشارِها، وأصبحت نموذجاً يُحتذى، وسجلَتْ ملامحَ الحضارةِ في مراحلِها الإنسانيّة في تجربةٍ تخترقُ آفاقَ الحياةِ، بزخمٍ هائلٍ وغنىً فريد. 

  في زمانِنا ليس البعيد ولا القريب، مرَّتْ البلادُ العربيةُ والإسلاميةُ بحالاتِ اضطراب، بعد أنْ كانت رايتُهم تعلو في أفقِ الحضارةِ والرقيّ، فما تركَتْ فرعاً من العلومِ إلا وانكبَّتْ عليه، وشحذَتْ الأذهانَ، وأغنَتْ المكتباتِ من جواهرها، بالفتوحات كانت تحيا، وتخلُد، وتتغلّب على الكثير من أخواتها. حتى أصبحت محورَ اهتمامِ الشعوبِ ومركزَ دورانهم، سجّلَتْ روائعَ فكرِهم وفلسفتِهم، في حين كان الغربُ غارقاً في الظلام بكلام جرجي زيدان: «والغرب في غفلة وظلام». ولكن في آواخر العصر العباسي بسبب التراخي السياسي نُقلت الإنسانيّة إلى عالم آخر، إذ إنّ تطوّرَ اللغةِ مرهونٌ بتطورِ الحياةِ السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة، وكذلك الحكم العثمانيّ كان وحده كافياً لإغراق البلاد في الظلام، وبعده الإنتداب الفرنسي، وفرضوا لغاتهم الرسميّة بدل العربيّة بحيث كان أحد البنود المعارضة للإستعمار يومها، «جعلُ اللغة العربية لغةً رسميّةً وليس الفرنسية». وإذ إنّ اللغةَ قد أصبحت بعيدة مسافات من زمن المنبع، فعامت العامية فوق فصاحة اللغة بعد تناوب الكثير من التغيرات، وعاشت حياة مختلفة عمّا كانت عليه حتى قال مارون عبّود: «لا أُحبُ أنْ أسمعَ أنَّ فينا من يدعو إليها (العامية) في الأدب لأنّي أخاف على مجد لبنان أنْ يتزعزعَ مِنْ أساسِه»، فلندعوا مارون عبود ليرى أنَّ العاميةَ تُقرأ في وسائل الإعلام اليوم، وفي جُلّ برامجنا التلفزيونية، ونقول إنّ تقديم العامية على الفصحى هي محاولات لإضعاف اللغة، وخنقها، وزجّها خلف القضبان. 

  إلا أنّ الأعظم من استبدال الفصيح بالعامي، في يومنا الحاضر تخلي أبناؤنا عن العربية أصلاً واستبدالها بلغات أجنبية، وفي ذلك تآمرٌ عليها لإخراجها من ديارها. والتقصير من أبنائها فاقم الحملة عليها، وإنّ في تمسكنا بلغات الغرب على حساب أمّ لساننا تحقير لذواتنا وزهد بثروة ملكنا، وتبعية عمياء جهلاء، واستحواذ لثقافة الغرب الدونية. لماذا نرى الإنكليزية والفرنسية أجمل وقعاً على أسماعنا؟ لأننا في الحد الأدنى نجهل قيمة لغتنا، وعدم احترام منّا لتراثنا، فحق طه حسين عميد الأدب العربي أن يقول: «إنّ المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً». هل تطورتم؟ فأصبح لصحوة أذهانكم شوقاً للتخلي عن لغة السماء؟ هو سهم أنطلق فأصابكم وما حمَيْتُم منه أنفسَكم، هي عثمانية وصليبية جديدة تعرّيكم من حِلييّكم، وتفقدكم من عنصر الوحدة والقوميّة، حتى أُصبْنا بالضعف الذي يشبه الإحتضار، والضياع الذي يشبه الموت، هنا سيطرتهم وخسارتنا، دعونا نستخرج حقنا من سيطرتهم، ولا نخضع لسيطرتهم وتبعيتهم على حساب حقّنا. هناك فرق بين أن أتقنَ لغةً أو لغات أخرى، وهذا جميل، وبين أن أجهل وأتخلى عن لغتي، وهذا قبيح. فواجب علينا أن ننقذ لغتنا من سجن ازدرائنا ونَكونَ قلباً مُجِلّاً لألسنتنا، ويتمُّ هذا بحضور المختلف والمتنوّع وصون لغتنا وتقديسها، فنحن نريد للغتنا أنْ ترتفعَ وتحلّق، ولا نرضى الجلوس تحت ظلال التبعية الثقافية لأي من المسيطرين.

نحن أسياد من عرف للحرف معنى، وطليعة من رسم الكلمة وغنّاها، نحن لن نخسر قدرتنا على العطاء، وعلينا يجب الذود والحفظ.

أيّها المثقفون أنتم الجدار الأخير الذي يدعم لغتنا، فإذا سقط وقعنا في هوّة الإبادات.

يقول العالم الألماني فريتاغ: «اللغة العربية من أغنى لغات العالم» فهذه إشادات بها لذاتها أولاً، وعمادة لحامليها وإهابة لهم ثانياً، فلنكن لها كتاباً تكن لنا هوية، ولنحملها بثقة الواثق لا الضعيف المتذبذب، دعونا نقاوم، ونتماسك، ونلتزم، ونصافح القلم ونكتب الهوية الضائعة بين أكوام المدعي الثقافة لإستعادة حق أجيالنا وحفظ تراثنا، ولنبذر النّواة مرات ومرات حتى الوصول إلى الربيع. مذكراً بقصيدة للمرحوم حافظ إبراهيم ولسان حال اللغة العربية حيث يقول فيها:

وسعت كتاب الله حفظاً وغايـــــــــــةً

وما ضِقتُ عن أَيٍ بـــــــــــــــــــه وعِظات

أيطربكم من جانب الغرب ناعبٌ

ينـــــــادي بـــــــــــوأدى في ربيع حياتــــــــي

أنا البحرُ في أحشائه الدّرُّ كــــامنٌ

فهـــل سألوا الغواصَ عـــــــن صدفاتي

الحاج أحمد عجمي

نائب سابق