بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تموز 2018 12:01ص حكايا منسيّة من تاريخ لبنان القديم

حينما فكّر بعضهم بحاكم من أسرة «برنادوت» للبنان أو «باي» من تونس

حجم الخط
ثمة من رأى ذات مرة، أو عدة مرات، أن النظام الأصلح في لبنان هو الملكية. آخر هؤلاء كان آخر مفوض سامي فرنسي في لبنان؛ المفوض غبريال بيو، الذي قضى نحو سنتين مفوضاً سامياً في سوريا ولبنان (1939 - 1941).
بيو هذا في الأصل كان ذا ميول ملكية، ويمت بحنين سياسي عتيق إلى زمن الملكية في فرنسا، ولهذا فكر بأن يكون هناك عرش في لبنان، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهزيمة فرنسا، واحتلال باريس من قبل الجيوش النازية، وتنصيب الجنرال بيتان حاكماً على فرنسا من قبل هتلر، جعل باريس تستدعيه وتنصب مكانه مفوضاً سامياً جديداً هو الجنرال دانتز.
ويؤكد المفوض بيو الذي عاش في فرنسا في عزلة ريفية كتب خلالها مذكراته عن سوريا ولبنان تحت عنوان (سنتان في سوريا ولبنان)، بأنه فكر فعلاً في قلب الجمهورية في لبنان وسوريا، مشيراً إلى أنه كان بالاتفاق مع بعض الأوساط الفرنسية قرر إقامة نظام ملكي، أو على الأقل إمارة لا يعتلي عرشها في لبنان هاشمي ولا سعودي أو مصري، ولا حتى في أي حال من تونس.
كان بيو حسب مذكراته يفضل أن يكون الملك أو الأمير على لبنان بروتستنتياً، وغير لبناني، أن يكون مثلاً أحد أمراء برنادوت الاسوجيين.
بيو وضع فعلاً مشروعاً بهذا الخصوص، نص بأن يتحالف الملك أو الأمير اللبناني المعني مع فرنسا تحالفاً دائماً أبدياً وسرمدياً، ويستعين بالاختصاصيين السياسيين والماليين والعسكريين والفرنسيين لإدارة الحكم.
ويشدد المفوض بيو أنه كان وظل يعتقد أن مثل هكذا نظام هو الطريق الوحيد للاستقرار في لبنان، ويضمن له المستقبل الباهر.
المفوض بيو لم يكن أول من فكر بجعل لبنان يقوم على أساس نظام ملكي أو جعله إمارة.
نعود إلى البدايات البعيدة جداً، فهو أيام كان صغيراً على بعض جبل لبنان كان إمارة زمن الأسرة المعنية التي انتهت عام 1769، وهو كان كذلك في زمن الأسرة الشهابية التي حلت بدل المعنيين.
أما حين أعلن لبنان الكبير عام 1920، فقد كان هناك لبنانيون فكروا في الأمر، كان ذلك عام 1926، حينما شكل المفوض السامي الفرنسي لجنة صياغة الدستور.
آنئذ، أرادت هذه اللجنة التي كان يرأسها موسى نمور وكان مقررها ميشال شيحا استطلاع رأي أكبر قدر ممكن من أصحاب الرأي والمهن اللبنانيين، فوُزعت مئات الاستمارات التي تضمنت عدة أسئلة، كان من ضمنها: ما هو شكل الحكومة.. ملكية أو جمهورية؟
العديد من الإجابات كانت مثيرة ومضحكة، ومن هذه الإجابات كان أن عدداً من أصحاب الرأي والفاعليات المسيحية اقترح أن يكون للبنان نظام ملكي يتبع أسرة آل بوربون، فيما الكثير من إجابات أصحاب الرأي والفاعليات من المسلمين اقترح نظاماً ملكياً يتبع أسرة الشريف حسين، بعدها رمت اللجنة بالردود وعكفت على صياغة الدستور، مستلهمة دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة الصادر عام 1875.
إمارة فمملكة
بعدها كان هناك من رأى أن يتدرج لبنان من الجمهورية إلى الإمارة فالملكية، وفي ذلك قصة طريفة تستحق أن تروى ليتعرف اللبنانيون على جزء من تاريخهم الذي قد يكون مازال خافياً على البعض منهم. وفي التفاصيل التي يرويها إسكندر رياشي عن ذلك أنه اجتمع ذات مساء في مطلع العام 1929 بعض الصحافيين ورجال السياسة اللبنانيين من أهل المتاجرة والتملق حول مائدة سخية في قصر الجزيرة بالقاهرة، وكان صاحب القصر الأمير جورج لطف الله يرأسها. جاءوا كالعادة يرسلون المدائح والإطراء لصاحب القصر، الذي كان حساساً كثيراً في هذا الجانب، ما كان يجعله يغدق النعم على هؤلاء الأساتذة في الكلام. كان جورج لطف الله ضعيفاً جداً أمام المدح والثناء، مع أنه كان جباراً ومغرياً بعضلاته القوية، ذا شعر مبعثر حالك السواد ولون أسمر حادق، وكان مليونيراً كبيراً يملك ثروة كبرى كان والده قد وضع قاعدتها، عندما هاجر من لبنان إلى مصر، فاستطاع أن يربط مصيره بمصير الخديوي عباس؛ المتربع على أرض الكنانة في ذلك الوقت.
كبرت ثروة الرجل الذي كان مصاباً بمرض العظمة، وهو المرض الذي أصاب أولاده من بعده بطريقة أشد وأقوى، وقد ابتاع والد جورج لطف الله قصر الجزيرة التاريخي وجعله مقراً لسكناه ومنزلاً لضيافة عظماء الأرض وكبارها، وتقول حكاية هذا القصر أن الخديوي إسماعيل ابتنى هذا القصر بسرعة فائقة وكرم عظيم، لتنزل فيه الإمبراطورة اوجيني دي مونتجيو الحسناء، عندما تأتي إلى مصر مع ملوك أوروبا لتدشن قناة السويس، فلا يتبدل عليها شيء في قصر الجزيرة عما هو عليه الحال في قصر التويلري في باريس، حتى لجهة الفراش والشراشف والمرايا وأواني الزينة.. ويقال إن الخديوي إسماعيل جعل في جدران غرف نوم الإمبراطورة وحمامها ثقوباً خفية يستطيع منها أن يمتع أنظاره بعري اوجيني الساحرة.. وهكذا عاش لطف الله الأب مع أولاده الأربعة في جنبات القصر؛ يحلمون بالجاه والعظمة.. وبالعروش.. وكان الأب قد حصل على لقب الإمارة من الشريف حسين بن علي، عندما حل هذا الأخير ملكاً على عرش الحجاز في الحرب الكونية الأولى.. وبالتالي صار أميراً كما حصل أولاده من بعده على ألقاب أمراء..
بالعودة إلى تلك المائدة العامرة التي أقامها الأمير جورج لطف الله، تناول الحديث قضية الرئاسة الأولى في لبنان مع اقتراب نهاية ولاية شارل دباس.. وهنا طرأت على بال رئيس تحرير جريدة الأهرام؛ اللبناني انطون الجميل، فكرة أثارت اهتمام الأمير جورج.
قال الجميل: لماذا لا يتكلمون في بلادنا عن عرش وملك..؟
وهنا لمعت عينا الأمير جورج، وظهرت الابتسامة على وجهه.. وفجأة ضرب بقبضته القوية على المائدة.. فاهتز كل ما على المائدة وقال: إذا كان ليس هناك من يتكلم عن إمارة وعرش عندنا، فأنا سأتكلم، وأمام كؤوس الخمور الفاخرة بدأ الكثيرون الملتفون حول المائدة يزينون الفكرة للأمير جورج، بحيث ما أن انتهت السهرة العامرة حتى وكان جورج لطف الله قد أصبح رئيساً ثم أميراً ثم ملكاً..
هكذا صار قصر الجزيرة بعد أيام قليلة كما يؤكد إسكندر رياشي؛ ملتقى تجار السياسة وأهل الدعايات والمغامرات، فضلاً عن جيش الصحافيين العاملين في أسواق الاستثمارات السياسية يقومون بالبروغندا اللازمة للأمير.
وبدأ جورج لطف الله اتصالاته بوزارة الخارجية الفرنسية، التي كان متأكداً أنها وحدها التي توصله إلى رئاسة الجمهورية عن طريق مفوضيتها السامية في بيروت، وبالتالي تمهد طريقه نحو الإمارة.
وسافر جورج لطف الله إلى باريس، وهناك أقام وليمة كبرى على شرف سكرتير وزارة الخارجية، فأخفى عقداً من اللؤلؤ نادر المثال وثمين جداً ضمن منشفة السفرة فوق أطباق الطعام المعد لزوجة السكرتير العام، وكانت دهشة السيدة العظيمة عندما اكتشفت الكنز الثمين الذي لم تستطع إخفاءه، ما جعل معظم الصحافيين الحاضرين يتحدثون في اليوم التالي عن العقد الثمين، وعدا عن العقد دفع الأمير جورج في باريس إلى سماسرة العروش مبالغ كبيرة، منها ثلاثون ألف جنيه أعطاها لموظف كبير في وزارة الخارجية، مقابل كتاب حمله معه من باريس عليه توقيع سكرتير الوزارة العام، يطلب فيه من المفوض السامي في بيروت مساعدة الأمير ليكون رئيساً لجمهورية لبنان.
سافر الأمير جورج لطف الله إلى بيروت، وبدأ على الفور مساعيه للوصول إلى غايته، وكان المفوض السامي قد عرف حالاً بتزوير الكتاب، ولم يكشف عن الأمر حفاظاً على سمعة وزارته في باريس، ولهذا بقي الأمير مصاباً بالدهشة لعدم مساعدة المفوض السامي له، ومتابعة مساعدته لدباس لتجديد ولايته.
وفي أي حال، في بيروت ظل الأمير جورج لطف الله على سعيه نحو غايته إلى الرئاسة، فالإمارة والملكية.. وكان يعرف أن هناك أمرين رئيسيين قادران على جلب الناس وهما: الطعام الشهي والذهب.
وكان الأمير جورج لطف الله قد نزل فور وصوله إلى بيروت في قصر سرسق الذي استأجره بأغلى الأثمان، وكان أول ما اعتنى به فور وصوله أنه سحب من المصارف بطريقة علم بها كل الناس أموالاً كبيرة.
ثم استخدم عنده أمهر وأحذق طباخ في ذاك الزمان؛ طانيوس الشمالي، الأستاذ الأكبر في علم الطعام بالأمس، وصاحب محلات وفنادق طانيوس الشهيرة.
وفتح الأمير جورج لطف الله أبواب القصر على مصراعيه، يدخل إليه السياسيون والوزراء والنواب والصحافيون والإعلاميون، وكل من له مكانة.. وكان يغدق الكثير من عطاياه.. وكم من الألقاب التي أطلقت على الأمير جورج لطف الله الذي كبر رأسه أكثر فأكثر.. حتى أن ما أغدقه جورج لطف الله جعل الكثير من الناس يعتقدون أنه وصل إلى الرئاسة لا محالة.. ليكتشف مشروع الرئيس والأمير والملك جورج لطف الله أن حكايته انتهت، وأن كثيرين كانوا يصلّون كي لا تنتهي هذه الحكاية التي انتهت فعلاً بعد دعاوى رفعها الأمير جورج لطف الله على سياسيين وصحافيين استفادوا من سخائه، وخلصهم منها كلها المحامي الشاب اللامع آنئذ عبد الله اليافي.
الحزب الملكي 
وللعلم، فقد كان هناك في لبنان من يؤمن أن الوطن الصغير يصح أن يكون له عرش، ففي سنة 1924 شكل أديب وسياسي لبناني اسمه حبيب البستاني، الحزب الملكي في لبنان، لكن هذا الحزب اقتصر على البستاني فقط، مع أنه كان هناك كثير ممن يعتقدون بضرورة إقامة نظام ملكي، منهم صاحب نظرية الفينيقية في لبنان آنئذ شارل قرم؛ صديق حبيب البستاني، لكنه أبداً لم ينضم إلى هذا الحزب، ومات هذا الحزب بعد عدة سنوات بموت مؤسسه.
باي تونسي
وما دمنا في مجال النظام الملكي، نشير في المناسبة إلى أن أميراً تونسياً يدعى ابن عياد كان يطالب بعرش تونس، لكنه في نيسان عام 1927 أراد الفرنسيون التخلص منه، فرشحوه لكرسي أو عرش أميري في لبنان، وصارت بعض دوائر الاستخبارات والمفوضية السامية الفرنسية تجس نبض بعض اللبنانيين لإقناعهم بالأمير، أو الباي التونسي، لكن شيئاً من هذا لم يحصل.