بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 كانون الأول 2017 12:55ص خيارات الرد العربي على قرار ترامب

حجم الخط
يُشكّل إعلان دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل خروجاً عن كل السياسات التي اعتمدها جميع رؤساء الولايات المتحدة الذين تعاقبوا على السلطة منذ احتلال المدينة في حزيران 1967  حيث مارس اللوبي الصهيوني الأميركي وجميع أصدقاء إسرائيل من السياسيين الأميركيين ضغوطاً متواصلة على كل المرشحين للرئاسة الأميركية خلال العقود الماضية، وخصوصا خلال الفترة التي سنّ فيها الكونغرس قانوناً لنقل السفارة الأميركية من تل ابيب الى القدس عام 1995، ولكنه ترك توقيت تنفيذه خاضعاً لإرادة الرئيس، لكن دأب جميع الرؤساء خلال هذه الفترة على عدم تنفيذ مشيئة الكونغرس إدراكاً منهم لفداحة الاخطار والتهديدات للمصالح الأميركية، للأمن والاستقرار العام في منطقة الشرق الأوسط.
كان ترامب قد وعد خلال حملته الانتخابية عام 2016 بالاعتراف بدولة إسرائيل، وبانه سيلتزم بتنفيذ هذا الوعد فور وصوله إلى البيت الأبيض، وذلك في محاولة حثيثة لاسترضاء اللوبي الصهيوني وأصدقاء إسرائيل، بالاضافة إلى كسب التيار الانجيلي المحافظ، ويبدو بأن نائب رئيس الجمهورية مايك بنس، والسفير ديفيد فريدمان لدى إسرائيل قد تابعا ضغطهما على ترامب من أجل تنفيذ وعوده الانتخابية لتحقيق هذه الاعتراف.
أعلن ترامب هذا الاعتراف في خطاب متلفز من داخل البيت الأبيض كما وقّع قرار الاعتراف هذا من داخل البيت الأبيض متجاهلاً كل الاعتراضات التي سمعها من رؤساء عدد من الدول العربية والإقليمية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وإيران، ومتجاهلاً ايضاً بأن قراره سيؤدي إلى إشعال حريق في المنطقة، وفي داخل المجتمع الفلسطيني، وبأنه يمثل تراجعاً كاملاً عن الدور الأميركي كراعٍ لعملية السلام.
في حقيقة الأمر ان ترامب ومشجعيه على اتخاذ هذا القرار قد وقعوا في مغالطة تاريخية، تؤشر إلى عدم اهتمامهم، ومعرفتهم بتاريخ القدس وفلسطين، جاء تبرير الاعتراف من الناحيتين التاريخية والاخلاقية على خلفية بأن القدس كان عاصمة للشعب اليهودي منذ ثلاثة آلاف سنة. وينطوي هذا المنطق على مغالطة تاريخية كبرى، وهي تؤكد مدى جهل ترامب لتاريخ المنطقة ولتاريخ الشعب اليهودي، كان على ترامب قبل اتخاذ قرار الاعتراف ما يقوله بعض المؤرخين الإسرائيليين المعاصرين، ومن بينهم أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب شلومو ساند في كتابه «اختراع الشعب اليهودي» حيث يؤكد بأنه قد ثبت يقيناً بأنه لم تتواجد دولة يهودية في فلسطين عبر الأجيال والعصور القديمة، وبأنه لم يكن هناك هيكل أوّل أو هيكل ثان، وبأنه لم يجر أي تهجير أو سبي لليهود على يد «نبوخذ نصر» أو غيره، وبأن مملكة اليهود القديمة هي مملكة «خيبر» في اليمن، وجرى تأكيد على هذه الحقائق التاريخية في المقاربة العلمية التي قدمها المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي في كتاب «التوراة جاءت من الجزيرة العربية».
كانت ردود الفعل من أقرب حلفاء الولايات المتحدة ومن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة معارضة ومحذرة من التساقطات السلبية للقرار الذي يتعارض كلياً مع السياسة المعتمدة اميركياً ودولياً في موضوع مدينة القدس، حيث يتفق الجميع ان وضع المدينة يجب ان يكون جزءاً من التسوية النهائية بين إسرائيل والفلسطينيين.
يبدو بأن ترامب لم يتجاهل فقط الحقائق التاريخية المتعلقة بالقدس وأهميتها للمسيحيين والمسلمين، ولكنه لم يتعظ من الدروس القاسية التي خلفتها زيارة ارييل شارون للمسجد الأقصى، عندما كان زعيماً للمعارضة في عام 2000 وما اثارته من احداث دامية في ما عرف في حينه بانتفاضة الأقصى. كما يبدو جلياً بأنه قد قفز فوق المواجهات القاسية التي حدثت في تموز الماضي احتجاجاً على وضع الشرطة بوابات الكترونية على مداخل الحرم الشريف بعد مقتل شرطيين على يد مسلح فلسطيني.
لا يمكن ربط إعلان القدس كعاصمة لإسرائيل في المضمون والتوقيت للقرار بالوعد الذي قطعه أثناء حملته الانتخابية، بل يبدو بأنه قد جاء كنتيجة لمناورة سياسية واعلامية من أجل إعادة تدعيم قاعدته الشعبية المتهاوية في صفوف الانجيليين المحافظين، ومن أجل التغطية على ما يواجهه من متاعب سياسية جرّاء التحقيقات الجارية في موضوع الاتصالات التي جرت بين حملته الانتخابية ومسؤولين روس، والتي بلغت مستوى خطيراً بعد ادلاء الجنرال مايكل فلين باعترافاته الأخيرة.
ستترتب على هذا القرار الأميركي تداعيات دراماتيكية على المستوى السياسي والأمني وخصوصاً داخل الأراضي الفلسطينية، ولا نغالي إذا توقعنا انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، مع كل ما يمكن ان يترتب عليها من نتائج دموية على الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء.
صحيح ان الدول العربية الأساسية تواجه حالة من الضعف السياسي بفعل الأزمات الداخلية والإقليمية الراهنة، ولكن ذلك لا يمنع من اتخاذها لموقف سياسي واعلامي موحد، يدين القرار ويحمل إدارة ترامب مسؤولية تأجج الأزمات الراهنة، واندلاع المزيد من الحريق، والتي لن تكون المصالح الأميركية بمنأى عنها.
يتطلب مواجهة هذا القرار «الشائن» ان يتوحد الفلسطينيون من أجل مواجهته بكل الوسائل المتاحة، بالإضافة إلى التوجه إلى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية للطعن به، كما يفترض بالسلطة الفلسطينية، ان تقطع كل اتصالاتها بإدارة ترامب تعبيراً عن سخطها وإسقاط أي دور لها كوسيط أو راعٍ لعملية السلام.