بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آذار 2020 12:00ص رحيل «الطيب» المقدام يطوي حقبة نضالية ناصعة

الراحل الطيب عبد الرحيم الراحل الطيب عبد الرحيم
حجم الخط
خسارة وطنية كبيرة برحيل المُناضل الطيّب عبد الرحيم محمود، أمين عام الرئاسة الفلسطينية، والقيادي الذي كانت له صولات وجولات في محطّات مُتعدّدة، ومجالات عدّة، ترك فيها بصمات سيحفظها له التاريخ في مسيرته النضالية الناصعة.

هو إبن الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود، وفي طليعة المُناضلين من أجل القضية الفلسطينية، وأوائل المُنتمين إلى حركة «فتح»، وتلميذ الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والمؤتمن على العديد من أسراره وصديق الرئيس محمود عباس.

وُلِدَ الراحل في بلدة عنبتا بطولكرم في العام 1944، وهو سليل عائلة مُتعلّمة، مُثقّفة ومُناضلة، فوالده الشاعر والأديب عبد الرحيم محمود، أحد وجوه البلدة، وقائد الثوّار في «معركة الشجرة»، تصدّياً للعصابات الصهيونية في العام 1948، التي استشهد فيها.

عاش «الطيّب» يتيماً، وهو بأمسّ الحاجة إلى حنان الأبوّة، لكن إرث والده حمّله مسؤوليات كبيرة، فحرص على تحصيل العلم، حيث التحق بـ«كلية التجارة» في «جامعة القاهرة»، وترأس «اتحاد طلبة فلسطين» في القاهرة، وتتلمذ على يدَيْ الشهيد ياسر عرفات، فكان في الطلائع الأولى المُنتمين إلى صفوف حركة «فتح» مع انطلاقتها في العام 1965.

مع انطلاقة الثورة بات ضرورياً المعرفة العسكرية، فكان في أوائل المُلتحقين بالكلية العسكرية في جمهورية الصين الشعبية.

أوْلى الإعلام حيّزاً كبيراً، فتسلّم إدارة إذاعة «صوت العاصفة» بين عامي 1969-1970، ثم مديراً لإذاعة «مُنظّمة التحرير الفلسطينية» بين عامي 1973-1978.

عُيّن مُفوّضاً سياسياً، ثم سفيراً لفلسطين في عدد من الدول، التي نسج فيها علاقات مُميّزة، انعكست نتائجها الإيجابية خدمةً للقضية الفلسطينية.

عضو المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس التشريعي والمجلس المركزي لـ«مُنظّمة التحرير»، وعضو في المجلس الثوري لحركة «فتح» منذ العام 1980، قبل أنْ يُصبِح عضواً في اللجنة المركزية للحركة في مُؤتمرها العام الخامس في العام 1988، حيث أُعيد انتخابه مُجدّداً في المُؤتمر العام السادس في العام 2009.

مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1993، أوكل إليه الرئيس «أبو عمّار» مسؤولية الشؤون الرئاسية للسلطة، واستمرَّ مع الرئيس «أبو مازن» أميناً عامّاً للرئاسة.

حاز أعلى الأوسمة الفلسطينية والعربية والدولية، تقديراً لدوره وجهوده النضالية وتحسين العلاقات مع شعوبها.

عند زيارة فلسطين لا بُدَّ من زيارة العم «أبو العبد»، للسلام والتحية واللقاءات التي تطول، لتكتشف في كل منها «كنز المعلومات» والكثير منه مُوثّق، لما يتمتّع به من ذاكرة حاضرة، وهو الذي كان مُقرّباً من الرئيس «أبو عمّار» على مدى أكثر من 4 عقود من الزمن.

في واحدة من الزيارات، وكان ذلك يوم الأربعاء في 15 آب/أغسطس 2012، اصطحبني العم «أبو العبد» في جولة إلى الجناح الرئاسي للرئيس الشهيد ياسر عرفات، الذي ما زال مكتبه عند مدخله، فدخلنا إلى مكتب الرئيس الشهيد، حيث ما زالت رهبته تسيطر على المكان، وعلى كرسيّه الذي زُيّن بـ«الكوفية الفلسطينية» التي امتاز بها، وعلى المكتب آخر رسالة حملت توقيعه، مُوجّهة من النائب المحامي فرج الطرّاف يطلب فيها تحديد موعد لمُقابلته، كُتِبَتْ بتاريخ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2004، ووصلت إلى الرئيس «أبو عمّار» في اليوم التالي، حيث وقّع عليها باللون الأحمر، مُدوِّناً: «مرحباً بكم في أي وقت ترونه مُناسباً لكم».

يحدّثنا عن دوافع إصرار الرئيس الرمز، على أنْ يضع إلى جانب مكتبه صورة يحمل فيها طفلته زهوة، وأخرى للشهيد البطل فارس عودة في مُواجهة دبابة «ميركافا» إسرائيلية، وفي الصدارة صورة للقدس الشريف تجمع قبّة الصخرة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

قبل أنْ يتوقّف أمام كرسيين، مُستعرضاً أسماء أبرز زعماء العالم، الذين استقبلهم الرئيس «أبو عمّار» على أحدهما.

نزلتُ معه درجات، وهو يستعيد مراحل الحصار والصمود الأسطوري للرئيس الشهيد في المكتب الآخر، الذي كان يستخدمه عند اشتداد القصف، حيث ما زالت أكياس الرمل التي دُشِّمَتْ بها النوافذ، ووُضِعَتْ خلف الأبواب، شاهدة للعيان.

ينتقل «الطيّب» ليحدّثنا عن «متحف الرئيس الشهيد ياسر عرفات»، الذي كان يتم العمل به، وأُنجِزَ ليجمع أبرز المُقتنيات، وما يتعلّق بالرئيس الشهيد.

بين لقاء وآخر، يستعيد العم «أبو العبد» اللحظات المُؤثّرة بذكرياته مع الرئيس الرمز، خاصّة خلال فترة حصاره، وصولاً إلى اللحظات الأخيرة، وهو على فراش المرض في المُقاطعة، وقبل نقله إلى باريس، واختيار تسليم الأمانة إلى «أبو مازن»، بالاشارة إلى أنّ «أبو عمّار» التفت إليه - والحديث هنا على لسان «الطيّب» - قائلاً: «أبو مازن» مش حبيبك لوحدك، هو حبيبي كمان»، ومردُّ ذلك إلى أنّ «أبو العبد» كان صديقاً لكليهما.

ويختم «الطيّب» ليُؤكد أنّ من أصعب اللحظات التي مرّت على حياته كانت عندما نعى للعالم الشهيد ياسر عرفات، يوم استشهاده في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004.

أغمض «الطيّب» عينيه ورحل، والقضية الفلسطينية تمرُّ بظروفٍ دقيقةٍ، في مُحاولة لتصفيتها، وأحوج ما تكون إلى أمثاله، لكن الرد على ذلك ما كان يُردّده دائماً الراحل المُتفاءل: «الشعب الفلسطيني ولادة، قادر على تحويل المُلمّات إلى منصّات نضالية، ليخرج أقوى وأصلب ويتغلّب على كل المُؤامرات»، وهذا هو أمله بإخوته ورفاق الدرب والأجيال التي تحمل الراية.

لم تُغرِ الطيّب» المراكز والمواقع التي شغلها، ولم تُغيّر فيه شيئاً، بل صقلت الأيام جوهر معدنه الأصيل، وهو ما سخّره في الخدمة والنضال من أجل القضية التي آمن وناضل لأجلها.

بقيت كل الصفات تُرافقه، من لياقته وأناقته، وثقافته وبلاغته، وقوّة حجّة إقناعه برؤيته الثاقبة، ونبرة صوته المُميّزة.

امتاز بالشجاعة والجرأة، والخدمة والتواضع، والأمانة وكتمانه للأسرار، ومنها الكثير في المهمّات الخاصّة.

هو المُناضِل، المِقدام، الصادق، إبن الشهيد الأديب، المُتميّز طالباً وإعلامياً، وعسكرياً وفدائياً، ودبلوماسياً وسياسياً، ومثال العطاء والوفاء، الرائد المُبدع، طيّب المُحيّا، لينطبق الإسم الذي اختاره له والده على المُسمّى.

رحل الطيّب عن 77 عاماً، حيث أغمض عينيه أمس (الأربعاء) في القاهرة، التي أحب وكانت له فيها ذكريات على مر السنوات.

رحم الله العم «أبو العبد»، الذي ستبقى مسيرته مُضيئة، وسيرته العطرة على كل شفة ولسان، وتُحفظ في سجل المُناضلين من أجل قضية فلسطين، التي بقيت بوصلته وهمّه الأوحد.