بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الثاني 2020 08:54ص رسالة مفتوحة إلى ابن عمي اليهودي

حجم الخط

عنوان هذا المقال قصدت به مخاطبة القارئ الأوروبي والدخول إلى قلبه وعقله. هذا الأسلوب هو بلا شك غير مألوف عند بعض الأشخاص في منطقتنا العربية والإسلامية من الذين ألفوا الصراخ ورفع الأيدي وتقطيب الجباه لكل من خالفهم في الفكر أو حتى في اختيار الأساليب المتنوعة لتحقيق الأهداف المشتركة.

تناول هذا المقال - الذي سبق ونشرته جريدة اللوريون لوجور باللغة الفرنسية - كثير من الصحف الغربية وعلقت عليه بموضوعية وبإعجاب كبير لما فيه من معلومات تاريخية ودينية أجمعت على اعتباره وثيقة يحتفظ بها بعناية بالغة وتقرأ عدة مرات (جريدة (Le Pèlerin وقد اشار أحد الصحفيين " فرنسوا كزافيه " ) في جريدة Le Mague ) بأن هذا المقال هو نموذج في التعامل الإنساني يجب أن يحفظ عن ظهر قلب ويدرس في مدارس العالم بدلاً من رسالة غي موكيه الشهيرة، كما نال هذا المقال إعجاب اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان التي قامت بتصويره وتوزيعه.

اخترت عنوان هذا المقال : "رسالة مفتوحة إلى ابن عمي اليهودي" للتهكم على هذه المقولة التي يتكلم عنها الغرب دائماً ويصفنا بأننا أبناء عم من قرابة بيولوجية واحدة جعلت منا رغم ذلك ألد ألأعداء الذين عرفهم التاريخ، فكانت هذه الرسالة مني إلى كل ضمير تقاعس عن مساندة حق الشعب الفلسطيني في أرضه وأينما كان ولو كان لهز ضمير كل يهودي يؤيد سياسة الكيان الصهيوني ويؤمن بحتمية وجوده كما يظن ويعتقد. واخترت هذا العنوان أيضاً رداً على فتاوى بعض حاخامات اليهود المتعصبين الذين يستبيحون دمنا العربي لأننا أبناء "الجارية غير الشرعيين" كما يعتقدون لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وأردت هذا العنوان أيضاً لدراسة هذه الحالة النفسية التي توارثها اليهود عبر الأجيال من خلال العلاقة التي باعدت بين سيدتنا سارة وسيدتنا هاجر عليهما السلام، والتي انتهت بخروج سيدتنا هاجر وابنها اسماعيل إلى الصحراء. وقد جاريت في هذه الرسالة ما زعمه اليهود من دور سلبي وظالم لسيدتنا سارة عليها السلام التي نربأ بها أن تكون ظالمة وحاقدة ومفترية ، وذلك بهدف أن أصل إلى نتائج تأثير هذه الرواية المذكورة في " العهد القديم" على العقلية اليهودية والصهيونية المنتشرة في بلاد الغرب.

ابتدأتُ هذه الرسالة متوجهاً بالكلام إلى اليهودي قائلا له : " سمعت منذ صغري بأنني أنا وأنت أبناء عم (والحقيقة بأن العرب والعبرانيين وإن كان أكثرهم من اليهود ينتمون إلى أب واحد وهو سيدنا ابراهيم) وأن لغتي العربية ولغتك العبرية مشتقتان من أصل واحد ، وأنك تزعم بأنك الإبن الشرعي لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن طريق إبنه اسحق بينما تتهمني بأنني ابن الجارية غير الشرعي لسيدنا ابراهيم عن طريق إبنه البكر اسماعيل، فدعني أتخيل معك بأن طفولة سيدنا اسماعيل كانت بلا شك ملأى بقصص اللعب والضحك واللهو مع أخيه إسحق وأن قصص هذه الطفولة البريئة لم تكتمل بسبب أن سيدتنا سارة التي نحترمها ونجلها وضعت حداً لهذه العلاقة بطرد اسماعيل وأمه في الصحراء البعيدة ، وذلك لتهكم اسماعيل من أخيه إسحق كما ذكر "العهد القديم" وأن الله وعد بعد ذلك سيدنا ابراهيم بأن نسله سيكون عن طريق اسحق وأما اسماعيل فسيجعله أمة أيضا لأنه من نسله.

وهنا أريد أن تتوقف معي لإعادة قراءة هذه القصة إذ جعلتك هذه القصة تظن خطأًً عبر كل الأجيال التي مررت بها بأن طرد سيدتنا سارة لسيدتنا هاجر وابنها اسماعيل عليهم السلام إلى الصحراء كان لحماية ابنها اسحق وحرمان اسماعيل من مقاسمة التركة (بمعنى النبوة والرسالة) باعتبار انه "ابن الجارية"، وأنه بناء لذلك فمن حقك في كل العصور طرد الشعوب الأخرى إلى " الصحراء" للهلاك إذا سببوا لك القلق وإلإزعاج ، وأن دولتك غير الشرعية من أجل حماية نفسها (حماية مزعومة) يمكنها اللجوء دائماً إلى إقصاء العرب وزعزعة استقرارهم، إضافة إلى اعتبارنا نحن العرب ابناء اسماعيل من "هاجر الجارية" لا حق لنا بوراثة سيدنا ابراهيم لا في أرضه التي أورثه الله أياها ولا في دعوته التوحيدية إلى عبادة اله واحد سرمدي.

ولكن الله تعالى بمشيئته وعنايته شاءت أن يصطحب سيدنا إبراهيم زوجته هاجر وابنه اسماعيل إلى صحراء " فاران" في واد غير ذي زرع حيث سيدعو الله بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وأن يرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. واستجاب الله لهذا الدعاء وفجر من تحت أقدام سيدنا اسماعيل بعد ان كاد يهلك من العطش ينبوعاً من الماء "زمزم" مازال الى الآن دليلاً على عظمة الله وعلى استمرارية دعوة سيدنا ابراهيم التوحيدية وذلك ببناء أول بيت يعبد فيه الله تعالى في مكة المكرمة التي ستتداعى الأمم لزيارته والحج الى بيت الله الحرام استجابة لدعوة سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فكان ذلك دليلاً من الله على استمرارية الدعوة الإبراهيمية في الرسالات الثلاث التوحيدية وفقاً لما جاء في "العهد القديم" في سفر التثنية عندما ذكرما قاله نبي الله موسى عليه السلام عندما حضرته الوفاة : "أقبل الرب من سيناء وأشرق من سائير وتلألأ في فاران". فذكرت هذه الآية بأن النبوءة الأولى كانت قد تحققت بمخاطبة الله سيدنا موسى في الوادي المقدس في سيناء وأن النبوءة الثانية التي لا تؤمن بها مطلقاً واؤمن بها بكل صدق وحزم مع أخي المسيحي قد تحققت أيضاً بظهور الملك جبريل لسيدتنا مريم لبشارتها بولادة السيد المسيح عليهم السلام في "سائير" من ناحية فلسطين وأنه سيكون رسولاً نبياً إلى بني اسرائيل، والنبوءة الثالثة التي أؤمن بها كمسلم قد تحققت أيضاً وهي هبوط الملك جبريل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء (على جبل فاران ) لإعلامه بنبوته وبرسالته الخاتمة إلى الناس جميعاً.

رغم هذه النبؤات الثلاث لم تؤمن بمجيء سيدنا المسيح عليه السلام وما زلت تتوقع ظهور مسيحك المنتظر، وإن كنت أحترم إنسانيتك وإيمانك بالله وبالرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله وبالأسس الأخلاقية التي جاء بها هؤلاء الرسل عليهم السلام، دون أن أنسى احترامك – إذا أردت تحقيق ذلك فعلاً – للحياة البشرية وبحقوق الشعوب الأخرى التي لا تشاركك معتقدك الديني !..إلا أنني أذكرك بأنك لم تستجب لدعوة نبيي الله اللذين جاءا بعد سيدنا موسى عليهم السلام وهما سيدنا المسيح وسيدنا محمد عليهما السلام، ولم تتوقف على هذا الرفض لدعوتهما فتآمرت على حياة سيدنا المسيح عليه السلام ومن بعده على حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. في مستهل الدعوة الإسلامية التي دعت إلى عبادة الله الواحد ونبذ عبادة الأصنام لم تستجب لهذه الدعوة واتهمته بالكذب وحرضت عليه كفار قريش عبدة الأوثان وتآمرت عدة مرات على قتله. ورغم ذلك فقد اعتبرك مع كل من في المدينة المنورة من اليهود في اول وثيقة دستورية لدولة المدينة أنكم أمة واحدة مع المسلمين لكم ما للمسلمين من حقوق وعليكم ما على المسلمين من واجبات دون أدنى تفريق أو تمييز.

خلال كل العصور التي عشت فيها بجوار من لم يشاركوك في معتقدك لم تستجب إلى تعاليم الله تعالى، فقد ناديت بالإنغلاق على الآخر في فترات كان فيها الإنفتاح والعيش المشترك والتنوع الديني مطالب أساسية تبعث بالأمل للإنسانية جمعاء. ولكنك فسرت وحرفت الخطاب الديني لصالحك ولصالح أتباع دينك بشكل انتهكت به حقوق الشعوب الأخرى غير اليهودية. رغم أنك لم تجد ملجأً تلتجىء إليه عندما اضطهدت وعانيت من سياسة التفرقة العنصرية في أوروبا إلا في بلاد "ابناء عمك" في الأندلس وبلاد العرب.

بعد مرور آلاف السنين أردت وقومك المجيء إلى فلسطين وإنشاء كيانك الخاص بك ولكنك تناسيت بأنه يعيش على هذه الأرض منذ البداية شعب آخر. لا أستطيع أن أتخيل بأن مشروعاً مماثلاً يمكن أن تنادي به شعوب اخرى مثل الكنديين الكيبيك والمالويين أو الشعوب المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية. مجرد تخيل رغبة هذه الشعوب بالعودة إلى ديارها الأصلية وطرد الشعوب التي تسكن فيها وتأسيس كيان جديد خاص بهم ، يعتبر من علم الخيال المحض رغم ان خروج هذه الشعوب من بلادهم لم يتجاوز الخمسة قرون ولا يعد بآلاف السنين.

لتحقيق هذا الحلم الخيالي لجأت إلى كافة الأساليب وخاصة الكذب والإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان، وانتزعت حقوق الملكية من أصحاب الأرض الشرعيين وانتهكت مواثيق القوانين الدولية. ولو استطعنا حصر المستخدمات اللفظية التي تنطوي عليها هذه الأفعال التي قام بها كيانك المغتصب لوجدنا انها تشتمل على كل معاني الحقد والدمار وقتل الأبرياء واستخدام العنف واحتلال الأراضي، وضمها اليها ومحاصرة الشعوب، والعنصرية الدينية والإتنية ، وترجيح الحق التاريخي على كافة الحقوق الأخرى. ولكنك وكيانك الذي أقمت في فلسطين لم تستخدما قط العبارات التي تدل على معاني الحب واحترام التنوع الديني والتسامح والعدل والمساواة والعيش المشترك، والحوار والسلام..

أتساءل عن الطرق الأخرى التي أتيحت لك ولم تستخدمها أنت وكيانك المغتصب منذ احتلالكم لأرض فلسطين والتي كان من الممكن أن تمكنك انت واتباع دينك من العيش بسلام على أرض فلسطين التي نحبها أنا وأنت دون طرد أهلها وأصحابها وهدم بيوتهم. أتخيل لو أن اليهود الذين هربوا من مجازر النازية طلبوا مساندة الفلسطينيين في العيش بسلام على أرض فلسطين دون هدف إقامة دولة خاصة بهم أو طرد الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وعدم استخدام العنف معهم لكانوا وجدوا كل ترحيب وحسن استقبال من الفلسطينيين تماماً كما استقبلت الشعوب العربية اليهود الذين هربوا من اسبانيا بعد إزالة دولة الأندلس.

أريد أن أعود إلى القصة التي جاء ذكرها في العهد القديم وتكلمنا عنها في بداية رسالتي اليك عن طرد سيدتنا سارة لسيدتنا هاجر عليهما السلام ومعرفة الآثار التي تركتها على ذاكرتك الفردية والجماعية . هذا التصرف المحفور في لاوعيك الجماعي حتى لا أقول في وعيك الواعي يفسر لي علاقة دولتك الغاصبة مع البلاد المجاورة. عندما طردت جدتك سارة جدتي هاجر وابنها اسماعيل لم تتخيل ولو للحظة مخاطر الطريق والعيش في صحراء قاحلة بلا ماء ولا طعام، لم تشعر بأحاسيس زوجها ابراهيم عند ترك فلذة كبده يغادر الصحراء بعيداً عنه ، ولا إلى مشاعر الطفل اسماعيل بالخذلان والطرد من منزل أبيه. ما أرادته سارة عليها السلام حسب مافمهته أنت من العهد القديم هو منح اسحق الشعور بالأمن مهما كان الثمن . هذا الأمن الخيالي والمخادع وليس الأمن الحقيقي والعادل. هذا السلوك الأناني الذي يبعد عن طريقه كل ما هو "مغاير" و" آخر" ولا يرى إلا "الأنا الشخصي والذاتي". كيانك المغتصب يزعم بأنه حتى يستمر ويشعر بالأمان عليه أن يقتل مئات الآلاف من الأرواح، ويطرد السكان من بيوتهم وأوطانهم، وينشر الخوف والرعب ليس في البلاد العربية ولكن في كل مناطق العالم ويتّبع سياسة التفريق وزعزعة الأنظمة السياسية الأخرى، يحرق ويدمر بوحشية آلاف المباني ومئات الجسور، يشيّد جدران العار ليعزل قرى ومساكن أصحاب الأرض الأصليين عن أراضيهم التي اغتصبتها منهم ، ويحاصر بلاداً بأكملها يسكنها ملايين الناس زورا وبهتانا.

لو أن سيدتنا سارة عليها السلام تصرفت تصرفاً آخر غير أناني حسب شخصيتها التي فهمتها أنت من العهد القديم، لعلمت بأن التهكم الذي يخرج من طفل صغير إزاء أخيه الذي يلعب معه لا يستحق أن يعاقب عليه بالطرد والحقد ولكن بمزيد من الحب والعطف. وأن الأمن لإبنها كان سيصبح أكثر عدلاً و مرضاة لله تعالى لو تركت "ابن الجارية" يعيش بسلام ومساواة لكامل حقوقه جنباً إلى جنب مع أخيه إسحق عليهما السلام.

وإذا كانت رحمة الله تعالى رعت سيدنا اسماعيل عليه السلام فلم يتعرض لمخاطر الطريق ولا للموت عطشا في صحراء قاحلة، فماذا سيفعل الله تعالى بكيان استولى بطريقة غير شرعية على أراض يعيش عليها شعب ينتمي الى هذه الأرض، هذا الكيان الذي مازال منذ عام 1948 يطرد السكان الأصليين من أجل ضم أراضيهم اليه ويقتل مئات الآلاف من الأبرياء أطفالا ونساءً وكباراً ، ويدمر بيوتهم وينتهج سياسة التفريق من أجل السيطرة على مقدرات الشعوب . من مزاعم هذا الكيان الغاصب أنه يفعل ذلك من أجل حماية أمنه واستقراره..

"إبن عمي اليهودي" لا أكرهك لديانتك ولكن لي الحق في أن أقول لك بأنك تخطئ في حساباتك. لسنا نحن أبناء الجارية ولست انت الإبن المدلل ، نحن مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين العرب نتضرع الى الله تعالى ونؤمن برسله وانبيائه . لقد شرفنا الله كما سبق وشرفك بالديانة اليهودية بديانتين سماويتين. فبعد أن أرسل الله سيدنا موسى عليه السلام أرسل لنا سيدنا المسيح عيسى ابن مريم وسيدنا محمد عليهما السلام لهداية البشر. ليست لدينا أية علاقة تربطنا بالشعوب الوثنية التي تخلت عن عبادة الله الواحد الأحد وعبدت الأصنام - وهم الذين تكلمت عنهم التوراة - حتى تعتبرنا بأننا أقل منك مقاماً ومكانةً وتعاملنا بازدراء. أننا جميعاً متساوون أمام الله تعالى.

لا تدعي بأنك مساوٍ لله تعالى الذي أعطاك مهمة إنجاز الخليقة الأولى ولا تعتبرنا أقل منك حرية، حتى تدعي بان الله سمح لك بالصلاة أمامه واقفاً بعكس المسيحيين الذين يتمتعون بحرية ناقصة كما تدعي إذ هم يصلون لله تعالى راكعين وبعكس المسلمين الذين سلبوا هذه الحرية كاملة فهم يصلون لله ساجدين . صلواتنا جميعها نتوجه بها الى الله تعالى بقلوب راضية ومستسلمة بكامل حريتها ووعيها الى الخالق عز وجل. وقوفا ركوعاً وسجوداً ...ألم تكن هي حركات الصلاة التي اختارها الله لتؤدى في الإسلام خاتم الرسائل السماوية ؟

فلتفتح لي قلبك واسمعني جيداً : إذا استمريت في هذا الحقد والتدمير والتفريق وعرض العضلات فإنك لن تربح في النهاية. فسوف يأتي اليوم الذي ترى فيه العرب أقوى منك وأكثر تصميماً على استرداد أرضهم المحتلة كل أراضيهم، من سيأتي اليك بالعون ويصون الحياة القيّمة لاطفالك والتي هي حياة قيّمة وبريئة مثل حياة أطفالنا."