بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 شباط 2018 12:31ص رفيق الحريري الإنسان

حجم الخط
يُكتبُ ويقالُ الكثير الكثير عن الرئيس رفيق الحريري بعد استشهاده، حتى لبات ذكره يستدعي الجميع إلى جملة من الإشادات والاعترافات القاطعة، بأن هذا الرجل قد عزّ نظيره بين قادة العالم الحديث، وبرزت له صفاتٌ ومعالمُ لم تترك مجالاً إلاّ وحطّت رحالَها، وأودعت بصماتها فيه متمثلة على وجه الخصوص بشخصيته الفذة، وخبرته السياسية وعلاقاته الواسعة والفاعلة داخل لبنان وخارجه، ونجاحاته المذهلة في دنيا المال والإقتصاد سواء على الصعيد الشخصي أم على صعيد الإنتفاضة الإقتصادية التي أطلقها في لبنان، مما قلب أوضاعَه رأساً على عقب، فبعد حربٍ داخلية ضروس، وبعد امتداداتٍ لهذه الحرب إلى العدو الإسرائيلي، وبعد خرابٍ ودمار شمل لبنانَ بأسره والمواطنينَ اللبنانيين بكلّ فئاتهم وجهاتهم المتناقضة والمتناهضة، وبعد وصول لبنان قبيل تسلّمه للحكم، إلى حدود الزوال واستطرادا، إلى تخوم التقسيم والفدرلة، إذا بالبلاد تنهضُ من خرابها العميق، ويسير اقتصادها وبناؤها بنبض الحياة المتجددة وإعادة بناء الوطن أرضا وشعبا ومؤسسات، وحتى هذا التاريخ، اذا ما سألَ غريبٌ أو قريب عن أي معلم حديث من المعالم الإنشائية الهامة التي تصادفه في أكثر من مكان، تبين له أنه يعود إلى سنوات حكم الرئيس الشهيد وإلى عهد انجازاته المتتالية. 
كلُّ ما ذكرت أعلاه مشهودٌ ومعروفٌ ومتداول، وسيبقى في الذاكرة أجيالا وأجيال، وقد ترسخ في أذهان من كان لهم حظ معايشته في الفترة التي أطل فيها هذا الرجل على تخومِ ومدنِ وقرى بلاده ولكنني في هذه الكلمة، سأتجاوز كل هذه الصفات الفذّة والإستثنائية، لأذكر بعضا من الملامح الإنسانية التي كان الرئيس الشهيد يتمتع بها، ولا أعني بها فقط أعمال الخير والعطاء التي كانت أياديه البيضاء تكثر منها بين الفئات المحتاجة، ولا أعمال البناء التربوي المذهل التي أرساها على مجمل الأراضي اللبنانية، كما أرسل من خلالها آلافا من اللبنانيين من كل الفئات والجهات لاستكمال دراساتهم الجامعية في الخارج، وعاد الكثيرون منهم إلى لبنان وقد حصّلوا علما متفوّقا، وتخصّصا في ميادين متطورة نادرة، وهم اليوم يقومون بواجبهم الطبيعي تجاه وطنهم وتجاه أنفسهم وتجاه محيطهم العائلي والمناطقي. 
ما أقصده في مقالتي هذه شواهد نادرة، تتمثّل في أحداث منفردة، تنم عن عمق الشعور الإنساني لدى هذا الرجل السبّاق والمتقدم في كل حقل وميدان. وفي إطار نشاطاته، معروفة تلك اللقاءات الدورية التي كانت تنظم في قصر قريطم ويحضر كل لقاء من لقاءاتها، ما يناهز الخمسماية مواطن، ومعروفة تلك النقاشات عالية المستوى التي كانت تدور خلالها، وإنّني ألفت النظر إلى صفة لها علاقة بالحواس الخمس حيث كانت للرئيس الشهيد، «حاسّة سادسة إضافية» كانت تمكّنه من خلال أمثال هذه اللقاءات سواء كانت في قصره أم في أي مكان آخر، من اكتشاف الكفاءات في أشخاصٍ لم يكن يعرفهم من قبل، فمن خلال مداخلة لأحدهم في موضوع ما ومن خلال المناقشات الدائرة مع الرئيس أو مع آخرين من الحضور تتناول موضوعا له علاقة بالشأن العام، كانت للرئيس القدرة على تمييزه، ومن ثم استغلال أي مناسبة لاحقة لدعوته إلى «لقاء خاص» غالبا ما ينتج عنه، إلحاق هذا الشخص اللافت للإنتباه في إطارات العمل السياسي والإداري في المؤسسات العامة والخاصة الخاضعة لسلطته وقراره، ومن هؤلاء كثيرون، حلقوا في آفاق العطاء العام والنجاح الملحوظ، سواء في لبنان أم في الخارج.  
وأصل إلى حادثةٍ لا يزال لها وقع في مشاعري، وفي ما أذكره عن هذا الرجل الإنسان.
بين جموع الحاضرين في أحد اللقاءات الحاشدة لديه، لاحظ رحمه الله بين أواسط الحشد الحاضر، شابا وفتاة يضعان نظارتين سوداوين، واستنتج من ذلك ومن طريقة تعاملهما مع بعضهما أنهما فاقدي النظر، كما استنتج أنهما ربما كانا خطيبين أو زوجين، حديثي الزواج، وعند نهاية اللقاء استدعى أحد معاونيه وأشار إلى ذوي النظارات السوداء، وطلب منه أن يدفع لهما ما فيه النصيب بعد تأثّره بما رآه، وعندما عاد إليه معاونه سارع إلى سؤاله عما اذا كان قد قام بالمهمة التي أوكلها إليه، وما هو المبلغ الذي دفعه إليهما، وقد ذكر له أن المهمة قد أنجزت، وأنه دفع لهما خمسماية دولار أميركي، فبدت علامات الإستياء الشديد على معالمه فطلب إليه بعد أن اتهمه بـ»البخل» وبسوء التقدير، إحضارهما إليه فورا، وقد استلحقهما المعاون على باب القصر، وعندما ذكر لهما أن الرئيس يرغب في لقائهما، انتابهما اضطراب وتحسّب، حيث ظنّا أن المقصود هو استعادة المبلغ منهما كليا أو جزئيا، وبعد لقائهما بالرئيس وبعد أن أبلغاه أنهما خطيبان يستعدان للزواج فور توافر الظروف المادية الملائمة لديهما منحهما مبلغا كبيرا، وأكّد عليهما وجوب إعلامه بموعد زواجهما المقبل ليقوم «بواجباته» تجاههما في المناسبة السعيدة المقبلة. 
هي «قصة»، انتقيتها من بين «قصص» إنسانية عديدة قُدِّرَ لي التعرّف إليها خلال علاقتي اللصيقة بهذا الرجل العظيم على مدى سنوات عديدة، وإنّني أفخر بأنّه اختارني مرّتين لأكون في لائحته النيابية، الأولى التي حال دون تنفيذها، سوريو ذلك الزمان، والثانية حال دون حصولها، عملية الإغتيال الآثمة.