لعل نفحات الشهر الكريم وعبقه الإيماني وخيراته وبركاته كفيلة ان تستل سخائم النفوس فتهدأ وتطمئن وتستعيد ثوابتها في التواصل مع الآخرين وخاصةً لجهة وحدة المجتمع وحتمية إستيعاب الكل للكل..
رمضان منحة وعطاء وخير وبركة ولم يكن يوماً عقوبة أو مغرماً، أو حرماناً، إنه الشهر الذي يهذب ويطهر، وتقوى به إرادةُ الخير والعزمُ والتصميمُ على التغيير وإعادةُ بوصلة السلوك إلى طريقها الصحيح ووجهتها الآمنة والناجية من ذاك الضعف المتكرر، وتارة أمام الغرائز الجارفة والتي كثيراً ما تعمي وتصم.. وأمام تيارات الفتن والمصالح التي لا تميز بين المصلحة الخاصة والعامة فضلاً عن الحلال والحرام.
رمضان شهر اليقظة الايمانية بل شهر التنافس في الخير والعودة إلى الذات وإلى الفطرة...
رمضان شهرُ استعادة الأمة والمجتمع لوجودها وهيبتها وانتمائها الديني والعقدي...
رمضان شهر التعالي على الجراح والخصومات والتسامح والتغاضي عمَّا فات.. فالخطأ صفة إنسانية بشرية متكررة.
وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون والكمال ليس من صفات البشر وكل ذلك يحتم علينا ضرورة التغافر والإعذار وفي الحديث النبوي الشريف إلتمس لإخيك عذراً ثم عذراً إلى سبعين عذراً ولما سئل صلوات الله وسلامه عليه وقيل له وبعد ذلك يا رسول الله قال التمس له عذراً..
رمضان هو الشهر الذي تُغسل فيه الحوبةُ من الأحقاد والضغائن والنفوس من كدرها وتسلمُ فيه القلوب من النكت السوداء فتصير إلى قلب: أبيض من الصفا.
رمضان هذا الشهر المبارك الكريم هو شهر الله وشهرُ الطاعات والخيرات والبركات هو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان هو الشهر الذي جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعاً يضاعُفُ فيه الأجر والثواب «من تقرب فيه إلى الله بخصلة من الخير كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه.. ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه..
ورمضان شهر الصبر والتحمل ورباطة الجأش.
والصبر ثوابهُ الجنة وإذا سابه احدٌ أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم..
ورمضان شهر المواساة وشهرٌ يزاد فيه رزق المؤمن، من فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، ولما قالوا ما كلنا يجد ما يفطر الصائم عليه قال عليه الصلاة والسلام يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن دون ان ينقص من أجر الصائم شيئاً.
لأن رمضان شهر التواصل والتحابب والتقارب والاحساس والشعور بالأخرين حتى ولو بتمرة أو شربة ماء..
ومن هنا ندرك حرص الإسلام على ضرورة الإلفة بين النّاس والتراحم فيما بينهم.
رمضان هذا الشهر الذي خصّه الله تعالى بما لم يكن لبقية الشهور، ففيه تفتح أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران.. ثم تصفد الشياطين وتقل، وينادي منادٍ أيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر...
إنه شهر التربية الإيمانية.. على القيم والفضائل ومكارم الأخلاق.. إنه شهرُ صقل النفوس وإحياء الضمائر وتقوية الوازع والرادع اللذين هما صمّام الأمان والأمن الذاتي والمجتمعي.
رمضان.. شهر الانتصارات الكبرى والتحولات التاريخية، كيف لا ومفتاح هذه التحولات هو النفس البشرية، والله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وشهر الصوم فرصة عظيمة لتغيير عوائد النفوس وانحرافات السلوك، فمن بدرٍ الكبرى، إلى فتح مكة، إلى حطين وعين جالوت، كان مسرحها رمضان، وكان رجالها اناسٌ أصلحوا علاقتهم مع الله سبحانه، فجعل على أيديهم النصر والتغيير.
واليوم.. ونحن نراقب متألمين ما يحدث في عالمنا العربي بعامة وفلسطين بخاصة يحدونا الأمل ان يكون شهر رمضان مناسبة لعودة الأمة إلى ذاتها وهويتها ودينها، لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً..
رمضان إذن هو بداية مسيرة النصر والفتح لأنه شهر التربية ونكران الذات والتجرد والشعور بأن الإيمان لا يكتمل إلا إذا انسلخ الإنسان من عبادة الذات وعبادة المصالح والضعف امام الغرائز أو عبادة المال.
إن رمضان، هذا الشهر الزمني، والصيام، هذه العبادة كفيلة أن تُلبس الأمة والمجتمع فضلاً عن الأفراد لباس التقوى وهو عين المراد من عبادة الصيام التي فرضت على الأمم قبل الإسلام فضلاً عن الأمة المباركة (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
إن الدندنة حول هذه المعاني أشبه ما تكون بنسيج من الخيال عند أولئك الذين ابتلعتهم الشهوات وعبدوا أنفسهم ونفخ الغرور صدورهم وتحولوا من عبادة الله تعالى إلى عبادة الذات والأنا وكل ذلك مجلبة للويل والخسران ومهما طال الزمن واشتدت الفتن والمحن فسنن الله ثابتة لا تتغير. انها العودة إلى الفطرة، إلى الحنيفية السمحة، إلى الدين القويم، والسبيل السوي، وإنها سنّة الله في الابتلاء والتحمل ليميز الله الخبيث من الطيِّب. وإنها الأمانة الكبرى التي لا يتحملها إلا أرباب الإرادات المتماسكة القوية التي تفوق صلابة الجبال.
في رمضان ندائي وأمنيتي ان يُدرك الناس حقيقة العبودية لله، فتهون عليهم المصائب والابتلاءات، ويسهل عليهم الترفع عن كل ما يشدُّهم إلى الأرض.
أنها أمنية صادقة ان نفتح قلوبنا، وان نمد أيدينا، وأن نستعيد قناعتنا ان المجتمعات لا تستغني عن واحد منا ولا تقوم على واحد فينا.
تقبل الله طاعاتنا جميعاً، وجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم وكتب للأمة النصر على أعدائها.
* مفتي طرابلس والشمال