بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 كانون الأول 2020 12:01ص سياسي عتيق.. سلّة ورد والست سميرة!!

حجم الخط
كلما تناهى إلى مسمعي اننا قد اقتربنا من ليلة رأس السنة لوداع عام واستقبال عام جديد تعود بي الذاكرة إلى تلك السهرة التي أكاد لا أنساها لما تركت في نفسي وذاكرتي من أثر جميل، كما علمتني درساً أكاد أقول انني تعلمت منه الكثير.

قبل الخوض في غمار ما حدث آنذاك في سهرة تلك الليلة المميزة والتي جمعت بالنسبة لي ما بين براءة الطفولة وما بين الأساليب الملتوية التي يعتمدها أرباب الفساد من السياسيين والمسؤولين في هذا البلد منذ سنوات وسنوات.

أما ما هي العبرة التي يُمكن لنا أن نستشف منها ما حصل في حينه، وكيف يُمكن لنا بالتالي أن نبني عليها للمقارنة بين الأمس واليوم في ما يتعلق بفساد السياسيين الذين يبدو انهم قد «شبّوا على الفساد وشابوا عليه».

بالعودة إلى حكاية تلك السهرة، لا بدّ من سرد وقائعها من دون مقدمات ومن دون «طول سيرة». 

كنت في التاسعة من عمري، حين دُعي والديّ - رحمهما الله - للمشاركة في حضور سهرة ليلة رأس السنة في أحد الفنادق، حيث ستحيي الحفل الفنانة القديرة سميرة توفيق، وكنت من صغري أحب صوتها وفنها الراقي كما سائر أفراد العائلة.

بعد أن رجوت والدتي باقناع والدي لاصطحابي معهما، مؤكداً لها انني سألتزم بكل ما تطلبه مني على صعيد عدم مخالفة التعليمات والاوامر و«القوانين المرعية الاجراء» التي تصدر عن ست الكل، استجابت لطلبي وأقنعت والدي بالأمر.

ذهبنا معاً إلى الفندق المذكور، وكانت القاعة تضج بعدد كبير من الساهرين الذين شاركوا في تلك السهرة، وكنت انتظر وأعد الثواني والدقائق حتى تحضر الست سميرة.

بعد أن جلس الحضور إلى الطاولات، وقد جلست انا قرب والدتي «على كرسي زيادة عدد»، وعلى ما أذكر كانت هناك طاولة تسمى «بطاولة الشرف». إثر بدء الحفل بقليل تمّ توزيع أوراق «تومبولا» على الساهرين، وأذكر أن ألوان تلك الأوراق كانت زاهية وجميلة، من الأحمر إلى الأزرق والاصفر والاخضر، أما البرتقالي فلم يكن قد «درج» بعد في حينه.

وكل من اشترى ورقة وضعها أمامه على الطاولة لا سيما على طاولة الشرف، وحين دعي الجميع لافتتاح الـ«بوفيه» وأخذوا يتسابقون لملء الصحون ومن ثم البطون، جلست إلى الطاولة أراقب ما يدور من حولي، وإذ بي أجمع كل ما على طاولة الشرف من أوراق ملونة دون أن أعرف ماذا تعني تلك الأوراق أو حتى مدى خطورة ما أفعل.

بدأ الجميع بتناول العشاء، فيما اعتلى أحد منظمي الحفل المنصة المقابلة لطاولة الشرف وبدأ إعلان أرقام الأوراق الرابحة، وكنت قد انتقلت من مكاني إلى قرب المنصة كي أسمع جيداً ماذا يقول وفي يدي الأوراق الملونة، ولم يكد صاحبنا يعلن رقماً رابحاً حتى أشهر له ورقة بحوزتي فيعلو تصفيق الحاضرين «للحظ السعيد» وهكذا دواليك. توالت عليّ الجوائز مع المزيد من التصفيق و«الهوبرة» فيما قال البعض الآخر «ما شاء الله هالولد شو محظوظ»؟!!

وبعد تسلمي القسائم الرابحة من الرجل الذي بدأ يتصبب عرقاً، دون ان يعرف ماذا يفعل في موقف مفاجئ كهذا، إذ تبين أن «طبخة» تلك الجوائز كانت على قياس السياسيين والشخصيات الجالسين إلى طاولة الشرف دون غيرهم من الحاضرين الذين توزعوا في ارجاء القاعة.

هنا أدركت ان «تواطؤاً وزعبرة» قد تمّت بين منظمي الحفل وبين عدد من السياسيين المشاركين في تنظيمه أيضاً، والذين أبدوا تململاً من فقدان أوراقهم، قبل أن يكتشفوا ويفاجأوا ان «حاصد معظم تلك الجوائز» هو ذاك الولد «المحظوظ».

ولم أكد أعود لأجلس قرب والدتي من جديد حتى همست في أذني كلمتين «حسابك بالبيت»، وهنا شعرت بالخوف وبدأت أدرك مدى الخطأ الذي ارتكبته والذي سأحاسب عليه (وفعلاً هذا ما حصل لاحقاً).

وما هو الا وقت قليل حتى بدأ صوت الست سميرة يصدح في القاعة، وعلا التصفيق وشارك الجميع بالرقص على أنغام صوت الموسيقى الصاخب، فيما بدأت أنا أجول بين الطاولات هرباً من سماع إنذارات والدتي المتتالية، وهنا قال لي أحد الشخصيات السياسية المعروفة آنذاك والذي كان يجلس على طاولة الشرف «تعا يا ولد»، جئت إليه لأجده نافخاً صدره «كالديك الرومي» ويدخن سيجاراً «وينفخ عليها كي تنجلي» وقال لي بلغة الأمر: خذ سلّة الورد هذه إلى المصعد وانتظرني هناك كي نعطيها للست سميرة، مشيرا بيده إلى بطاقة وُضعت عليها باسمه كي لا تقع البطاقة أرضاً. وفعلا وضعت سلّة الورد قرب المصعد، وعدت أدراجي إلى والدي طالباً منه بطاقة شخصية باسمه فسألني عن السبب، قلت له أنا بحاجة إليها، فلبّى طلبي، فقمت باستبدال البطاقة التي كانت على سلّة الورد بالبطاقة التي أعطاني إياها والدي، ولا أدري لماذا فعلت ذلك آنذاك. ولم تكد الست سميرة تصل إلى المصعد حتى لحق بها مرسل سلّة الورد الفعلي للسلام عليها، الا انها اقتربت مني وتسلمت تلك السلة، وقالت لي «شكراً كتير الك يا شب الحلو» وطبعت على وجنتي قبلتين لن أنساهما أبداً، دون أن تكترث أو تهتم لأمر ذاك السياسي، وغادرت المكان، وعاد هو إلى مكانه خالي الوفاض.

اذن كيف لنا من خلال ما حصل ان نميز بين سياسيي الأمس وسياسيي اليوم، واساليبهم التي لا تزال هي هي، مبنية على الاستهتار بمشاعر النّاس وكراماتهم حتی لو كان أحدهم «ولداً» معتبراً ان ذاك الولد مجرّد أداة يسخره لخدمته في مثل هكذا حالات.

أضف إلى ذلك، ان التواطؤ كان واضحاًً بين منظمي ذاك الحفل ومجموعة من السياسيين الذين شاركوا بالاساس أيضاً في تنظيم تلك السهرة، وكانوا يعدون أنفسهم لحصد الجوائز دون غيرهم من الساهرين ودون أن «يستحوا» أو يخجلوا ممّا يفعلون، ولم يكن يرد إلى ذهنهم ان ولداً سيفعل فعلته عن غير تُصوّر وتصميم على عكس ما كانوا هم يخططون له مسبقاً باسلوب ماكر ورخيص.

وبالمقارنة من جديد بين ما كان يحصل آنذاك في مثل تلك السهرة وأيامنا هذه بشكل عام، يتبين ان هذا البلد ربما بات يحتاج إلى ولد أو مجموعة من الأولاد لكي يفاجئوا سياسيي اليوم لتجريدهم من الأوراق التي يلعبون ويتلاعبون من خلالها بمصير العباد والبلاد والتي طالما استخدموها في التشبيح على النّاس والسطو على ودائعهم وجنى العمر بالتواطؤ مع أصحاب المصارف كما تهريب الأموال المنهوبة بمليارات الدولارات إلى الخارج، مما أوصل لبنان إلى الدرك الخطير من فقر وجوع وعوز وركود اقتصادي وسياحي ناهيك عما وصل إليه البلد من انحطاط سياسي واهتزازات وتوترات أمنية بين الحين والآخر، أضف إليها كل التراكمات والانهيارات التي يُعاني منها لبنان على مختلف الصعد وكلها بسبب تصرفات وممارسات تلك المنظومة الفاسدة من السياسيين والذين لا يعرفون كيف يحملون سلّة الورد فكيف بالأحرى سيتحملون مسؤولية مصير وطن وشعب كان حتى الأمس القريب تفوح منه رائحة العطر ويسمى بلد الاشعاع والنور، على أمل ان يأتي وقت قريب لا يجد أحد من السياسيين الفاسدين من يكترث له أو يعيره أي اهتمام، وحينها فقط سيكون مصيرهم في محكمة التاريخ.