بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آب 2020 12:03ص صناديق الرسائل

حجم الخط
تحولت أوطاننا العربية، للأسف، إلى صناديق رسائل.
تخلت عن سيادتها، فأصبحت كصندوق خشبي.
أصبحت «سحّارة» خضري فارغة. أو «صندوقة» من البلاستيك للخردة، أو صندوقا معدنيا يُعلّق على مداخل البيوت، وبوّابات البنايات، أو في زوايا الشوارع، أو في حوائط الإدارات والمجالس، أو في أجنحة مخصّصة للزبائن في مباني البريد، أو أمام المعابد والقصور والدور والمتاحف المعقّمة، حيث تخلع الأحذية لها، قبل الولوج من الأبواب. 
تخلّت أوطاننا عن كرامتها الوطنية، وتخلّت عن كرامة شعبها. تخلّت عن كرامة جيشها. تخلّت عن كرامة مجالسها. تخلّت عن كرامة إداراتها. حتى فرغت من محتواها، وغدت صندوقة فارغة.
كان لبنان بلد النمو والازدهار، وكان لبنان بلد العروبة والانصهار. عرفت ساحاته النضالات الشعبية والنقابية والطلابية. عرفت ساحاته معارك الحرية والديمقراطية. كان من أوائل الأوطان التي ردّت على نكبة فلسطين، وعلى هزيمة حزيران، وعلى الجبهات والمعسكرات والتحالفات.
أمضى لبنان قرناً من الزمن، واقفاً كالسد المنيع، في وجه العاديات، وفي وجه العوادي وفي وجه الأعداء.
ثم ها هو اليوم، قد تخلّى عن دوره، وتخلّى عن سيادته، وتخلّى عن جيشه، فغدا شبّاك بريد، بل صندوق بريد، يمر به الشرق والغرب، وأهل الشمال وأهل الجنوب، من كافة أرجاء الأرض، فيضعون فيه الرسائل السياسية والعسكرية، يوصلونها إلى مَنْ يعنيهم الأمر.
كانت سوريا قلب العروبة النابض، فهبّت عليها العواصف وأنهكتها. خلّعت داراتها وأسواقها ومدنها. أشعلت الداخل والساحل وضربت البوادي، ودمّرت الجسور والمصانع، وقسّمت نواحيها وأرجاءها، وجعلتها صندوق بريد للداخل والخارج.
ها هي ليبيا أيضاً على طريق «العرقنة»، وها هي العراق على طريق «الصوملة»، وها هي مصر على طريق «السودان»، وها هي الجزائر على طريق «تونس»، وها هي السودان تسبق جميع البلدان، وتضع في عنق النيل صندوقين، لرسائل الأفارقة والآسيويين والعرب والغرب والشرق والأميركيين.
مائة عام مضت. مائة عام درست أرض هذه البلدان. حوّلتها إلى خرائب وأقفاص للحمام الزاجل. لم يستطع الحكّام أنْ يحفظوا أمانات شعوبهم، ولا كرامة شعوبهم، ولا سيادة أوطانهم. جاء بهم المحتلون والمستعمرون والمستوطنون وأصحاب الغايات والأهداف، إلى القصور والمراكز والقيادات، كما تحمل التماثيل إلى المتاجر المصنّفة في الأسواق العالمية، أو كما تضرب الخيم للأسواق الشعبية.
مائة عام مضت على تجار الخردة، وهم يحطّمون صروح بلدانهم، ويفتّتون إرث أجدادهم. فلم يبق من دولهم إلا الخشب المحطم، إلا «الخشب المسند»، كأنّها مزارع للدجاج، وأحواش للأغنام والبهائم، وأقفاص فرغت ممّا تبقى فيها من الصيصان، فصارت أعشاشاً للحمام الزاجل.
بلاد تخلّت عن سيادتها، بلاد تخلّت عن كرامتها، تخلّت عن شعبها، عن أبنائها، فصارت صناديق سوداء، للرسائل البيضاء والحمراء والصفراء والسوداء.. صارت صناديق رسائل.
د. قصي الحسين
 أستاذ في الجامعة اللبنانية