يعيش لبنان منذ مدة طويلة أزمات عدة، طغت عليها في المدة الأخيرة أزمة تشكيل حكومة تخلف حكومة الرئيس سعد الحريري التي استقالت تحت ضغط الانتفاضة الشعبية على الأوضاع الحياتية والخدماتية والاقتصادية والمالية المتردية، نتيجة فشل الحكومة المستقيلة والحكومات السابقة في إدارة الدولة إدارة سليمة مرتكزة على خطط ومناهج علمية متطورة وعصرية، ونهب المسؤولين للأموال العامة في الصفقات المشبوهة والتلزيمات بالتراضي للأقرباء والمقربين، وانتشار الهدر والفساد نتيجة غياب الرقابة والمساءلة وعدم قيام القضاء بواجباته في المحاسبة الجدية لارتباطه بالسلطة السياسية.
انتفض الشعب وثار لكرامته ولقمة عيشه ضد كل الطبقة السياسية، مستخدماً في ثورته شعار «كلن يعني كلن»، أي ضد الفاسدين وناهبي المال العام والساكتين عنهم. ثار بعد أن وصل الدين العام إلى حدود مئة مليار دولار ولا يرى أثراً إيجابياً لهذا الدين على البنى التحتية والخدمات، فالتقنين في التيار الكهربائي يزداد قساوة، والنفايات تتراكم في الشوارع والمكبات غير الشرعية تلوّث البيئة وتعرّض الناس للأمراض، ومياه الشفة شحيحة وغير منتظمة، والمستشفيات عاجزة عن تأمين الاستشفاء بكرامة لقسم كبير من الشعب الذي أصبح يعيش تحت خط الفقر، وتوقفت العجلة الاقتصادية وتخطت البطالة لدى الشباب نسبة الـ40%. توحّد الشعب بكل أطيافه وطوائفه، وثار بطريقة سلمية وحضارية أثارت إعجاب العالم، مطالباً بتنحي الطبقة السياسية عن الحكم وباستعادة أموال الدولة المنهوبة من الفاسدين وبمحاسبتهم.
مضى أسبوعان على استقالة الحكومة، وما زال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يماطل ويراوغ في الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة لتكليف من سيكون رئيساً للحكومة العتيدة، في محاولة منه للإمساك بالمراحل المتصلة بالاستحقاق الحكومي، ممارساً بذلك صلاحيات كانت له قبل اتفاق الطائف، الأمر الذي ينذر بإثارة صراع دستوري وسياسي وطائفي.
وانتظر الناس الحوار المتلفز مع الرئيس عون، مع الأمل بأن يجدوا فيه ما يشفي غليلهم في الإعلان عن موعد للاستشارات النيابية والموافقة على تأليف حكومة من اختصاصيين حياديين وفق ما تطالب به حشود المتظاهرين. وكانت صدمتهم كبيرة من لغة الازدراء والاستعلاء التي استخدمها عون في حديثه، ودفاعه المستميت عن «حزب الله»، وتحديه للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، ورفضه إجراء استشارات التكليف قبل حصوله مِن مَن سيكون الرئيس المكلف على موافقته على تركيبة الحكومة وأسماء أعضائها وبرنامج عملها كما يرتئيها عون، الأمر الذي يعد تعدياً على الدستور وعلى صلاحية رئيس الحكومة المكلف وبالتالي على المجلس النيابي.
إننا نطالب عون بعدم استخدام لغة المكابرة والتحدي والعناد، والابتعاد عن ممارسة صلاحيات تتنافى مع الميثاقية بذريعة عدم وجود نص في الدستور يحدد مهلة للدعوة إلى استشارات التكليف، فيسارع إلى دعوة السادة النواب إلى الاستشارات، حيث نأمل منهم أن يختاروا الشخص المناسب لهذا الموقع المهم والمؤثر. فالظروف القاسية والصعبة التي تمر فيها البلاد تحتاج إلى شخص قدير وحكيم وصاحب قرار ويتمتع بعلاقات جيدة مع أصحاب الشأن في الداخل وفي مقدمهم أبناء وبنات الثورة وعلى رأسهم شبابها وشاباتها، ومع المحيط العربي وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي والمؤسّسات المالية والنقدية الدولية.
وفي اعتقادي واعتقاد كثيرين بأن الشخص الذي تنطبق عليه هذه المواصفات والمؤهل لملء هذا المركز هو الرئيس سعد الحريري، وأنا على يقين بأن الثوار لن يقفوا حجر عثرة أمام تكليفه، لأنه كان أول من وافق على طلبهم بالاستقالة خصوصاً أن الحكومة المستقيلة لم تكن تلبي طموحاته، واستجاب لدعوتهم بتأليف حكومة تكنوقراط، ولم يتعرّض منهم للإساءة والتشهير.
والمطلوب من الرئيس المكلف تأليف حكومة تكنوقراط للإنقاذ المالي والاقتصادي يرضى عنها الثوار، حكومة غير فضفاضة مؤلفة من 14– 18 وزيراً أكفياء من ذوي الخبرة العالية في مجالات اختصاصاتهم وناصعي الكف، بحيث يتولى كل وزير الوزارة التي تقع ضمن اختصاصه، ولا يكون تابعاً لأيّ حزب أو مرجعية سوى لوطنه ولرئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء.
وأولى المهمات الملقاة على عاتق هذه الحكومة إعادة ثقة المواطنين والمجتمعين العربي والدولي والمؤسّسات المالية الدولية بها، وأداء أعضائها منفردين ومجتمعين هو وحده الذي يعيد الثقة. ويتطلب منها العمل بسرعة على إنقاذ الأوضاع الاقتصادية والمالية المتردية من خلال تطبيق الورقة الإصلاحية التي أقرتها الحكومة المستقيلة مع بعض التعديلات عليها. لذا عليها أن تبدأ بمحاربة الفساد في الجمارك والكهرباء والأملاك العمومية والتهرب الضريبي والوزارات والمجالس والصناديق والمؤسّسات وإلغاء غير المجدي منها، واستعادة الأموال المنهوبة، وترشيق الإدارة، وإلغاء رواتب الرؤساء والنواب السابقين، وتحديد سقف للرواتب في الإدارة والمؤسّسات العامة بحيث لا يزيد الراتب الواحد عن راتب رئيس الجمهورية، وإلغاء كافة أنواع المخصصات العلنية والسرّية.
وإذا كانت الحكومة ستبقى لمدة طويلة فعليها أن تعمل على إعداد قانون عصري للأحزاب يراعي إنشاء أحزاب غير طائفية، ويستحسن أن تقام على مبادىء اقتصادية واجتماعية، بحيث ينتسب إلى أي منها من يرغب من المواطنين وفق تطلعاته وموقعه الاجتماعي والاقتصادي، وتأليف الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، وانتخاب مجلس للشيوخ يتعاطى القضايا الميثاقية والمصيرية ويكون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. كما عليها إعداد قانون انتخاب عصري خارج القيد الطائفي يعتمد نظام النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة أو دوائر متوسطة الحجم 8-10 دوائر، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
إن المهمات الملقاة على الحكومة الجديدة كثيرة، وهذا يتطلب حصولها من مجلس النواب على تفويض منه وإعطائها حق التشريع لمدة محددة ولموضوعات معينة عن طريق إصدار قوانين بموجب مراسيم اشتراعية. ومعلوم أنه لا يوجد نص يجيز ذلك، إلا أنه حصلت سوابق عدة في هذا الشأن.
أما إذا كانت الحكومة العتيدة تكنو-سياسية كما يطالب عون والتيار الوطني والثنائي الشيعي، فإنها ستكون غير منتجة وأشبه بالحكومة المستقيلة، إذ ستطغى على أعمالها مصالح الأحزاب والقوى السياسية المشاركة فيها.
ويبقى السؤال: هل سنشهد حكومة تلبي طموحات الثوار في القريب العاجل؟