مع امتناع رئيس الجمهورية عن لعب دوره الدستوري في تلبية مطلب الثورة بالتكليف بعد استقالة الحكومة، ومع نقص النزاهة في جسم القضاء حاليا، تتجه أبصار كثير مِن الثوار نحو قائد الجيش. وفيما يلي رؤية مقترحة حول علاقة الأخير بالثورة.
الدستور لا يسمحُ بهذا!!
عبارةٌ ضجّت بها خِيَم الثوار في الساحات على امتداد الوطن. ورغم أن حلقات النقاش قد بدأت منذ اندلاع الثورة في 17 تشرين أول 2019، إلا أنها مضت فترة الشهر والنصف مِن عمر الثورة دون نيل أي فائدة مِن الضجيج الناتج عن عبارة «الدستور ما بيسمح بهالشي». إنه التفكير داخل الصندوق، وإنها المُشكِلة العقليّة التي تجعلُ المُخَّ مُقعدا، عاجزا وبائسا، كلّما طُرِحَت مسألة أو فكرة تتعلق بالشأن العام.
الثورة تُنجِبُ شَرعيّة دستوريّة جديدة!
فور اندلاعها، تحوّلت الثورة إلى إسفنجة تمتصّ السيادة مِن مسالِكِ كلّ سلطات الدولة لصالِح الشعب، كيف لا وهو مالكها بالأساس والأصل؟ وحين شعر الشعبُ بأن المنظومة التي ائتمنها على سيادته قد خانت الأمانة، جاءت الثورة كصرخة شعب يزأر بوجه المنظومة، أن أرجِعيها.
هناك حقيقة غائبة عَن مدارك بعضِ الثوار، وهي أن الثورة تشكّل أوّل خطوة خارج الدستور، ويخطئ مَن يظنّ بأن ما ينطبق على التظاهُر ينطبق أيضا على الثورة، لجهة ان الثورة حقّ تكفله دساتير الدول الديمقراطية. لكن حقيقة الأمر ليست كذلك، فالثورة لا تنتظر ضوءا أخضرا مِن أحد، لأنها تسمو فوق كلّ شيء حتى الدستور، رغم أنه أسما القوانين.
كيف تسمو الثورة فوق الدستور؟
بحسب مبدأ تراتبيّة القوانين فإن الدستور هو أسماها، إنما لكي يصحّ ذلك يُشتَرَط بالدستور أن ينال رضا الشعب Le consentement du people. فما الدستور إلا تجسيدا للعبقرية الخاصة بالشعب، ودستور لبنان التالف والمُستنسَخ أصلا، بات لا علاقة له بأية عبقريّة، سيّما عبقريّة جيل لبنان الجديد.
لقد أظهرت حلقات النقاش في ساحات الثورة أن هناك هُوّة واسعة بين عبقريّة الشعب مِن جهة وبين الدستور المترهّل والمُحَنّط. ذلك الدستور الذي أسّس لنظام فيدراليّة الطوائف التحاصُصيّة الفاسِدَة المُتعسّفة والمُتغوّلة، حتى بات دستور لبنان يُجَسّد نقيضا ليس فقط للعبقريّة اللبنانيّة فحسب إنما حتى للمنطق، بل وبات الدستور اللبناني مرآةً كاذبة تعكس صورةً غايةً في القُبحِ، لشعبٍ غايةً في الروعة.
مع تعثّر انبثاق قيادة للثورة تجعل الثوار صفّا واحدا قادرا على إنزال المسؤولين مِن قصورهم مكبّلين، ومع امتناع رئيس الجمهوريّة عن لعب دوره الدستوريّ في تلبية مطلب الثورة بالتكليف بعد استقالة الحكومة، ومع انتشار الشعور لدى غالبية الشعب بطول النفق وظلمته، تتّجه الأبصار نحو قائد الجيش العماد جوزيف عون.
أمام تعقّد الموقف وخطورة المرحلة، تبرز الحاجة أكثر فأكثر لفِكر وثاب يقفز برشاقة فوق كلّ القيود العقليّة التي تتحدّث عن القوانين العاجزة، فالانتفاضُ لأجل الحقِّ هو البديل الحتميّ عندما تعجز القوانين، ولا يُستَثنى الدستور مِن هذا المبدأ بتاتا.
لاستيضاح سُموّ الثورة على الدستور، نرجع إلى نظرية العقد الاجتماعي Théorie du contrat social. فالإنسان يستطيع العيش دون دولة، ولطالما عاش كذلك، لكن اتفاق الإنسان مع الإنسان على العيش في كنف دولة جاء انطلاقا مِن رغبة الجميع في حياة أفضل. والحال كذلك، هل يصحّ الركون لدستور دولة انحرف بها لتكون عبئا على صدور الناس بدلا مِن أن تكون وسيلتهم للهناء وللرفاه؟
بين السلطة القضائية والمؤسسة العسكرية؟
جميل أن تكون ثورتنا سلميّة، لكن ليس جميلا أبدا أن تحمل في طياتها أسباب انتهائها وتبدّدها بسبب اللطف والتهذيب واللباقة. نعم، لا بدّ مِن خطوات خارج الدستور تنساب عُقبَ ثورة 17 تشرين، التي هي أولى تلك الخطوات. وإذا كان الدستور يضع الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، فلا ضير مِن اختطاف تلك الكرة مِن قِبَلِ السلطة القضائية، أو مِن قِبل لاعبٍ قوي يحظى بقبول شعبي كقائد الجيش.
ولما كانت الأصوات المطالبة بتحرّك السلطة القضائية لإخراج البلاد مِن النفق لا تلقى أي صدى يُذكر، رغم أنها صدرت عن عقلاء غيورين على المصلحة العامة، إلا أنها مشكلة توقيت تحول دون تحقّق ذلك، حيث ان الدور المطلوب مِن القضاء يستوجب الصلاح، ولا أمل مِن صلاحه في القريب العاجل، ولربما سيكون ذاك الإصلاح باكورة مهام حكومة الثورة المرتقبة.
لذلك، ورغم عِلمنا التامّ بأن تدخّل العسكر في الحُكمِ لا يستقيم ديمقراطيّا، إلا ان ظرفنا الاستثنائي والخطير، يجعلنا نميل إلى المطالبة بتشكيل حكومة مطعّمة بضباط عسكريّين، يؤازرهم قضاة وخبراء وأخصائيّين.
الثورة والجيش
يتوجّس بعض الثوار كما معظم اللبنانيّين مِن وصول العسكر إلى الحكم. ورغم ان عددا مِن رؤساء الجمهورية جاء مِن المؤسسة العسكرية، إلا ان الحُكمَ في لبنان لم يكن بيوم مِن الأيام عسكريا، ولم يُسجَّل في تاريخ الجيش اللبناني أنه مارس السياسة بما يزيد عن تظهير مُواطن لبناني لَمَعَ في الجيش بداية، ثم انتقل لخدمة الوطن بفِطنة السياسي الذي يحترم الدستور، وليس بعقلية العسكري الذي يستسيغ البَطش. لذلك، لا داعي للتوجّس حيال هذا المسار، سيّما إذا واكبه الإعلام وآزرته الثقافة عبر تشكيل رافدٍ فيّاضٍ مِن التحليلات السياسية المُتّزنة، لِتبيان الحاجة المُتبادلة بين الثورة والجيش.
لا نبالغ إذا قلنا ان الثورة هي الخير المُطلَق في هذه اللحظة اللبنانية التاريخية، فما تناغمت الثورة مع شيء إلا عزّزته وأعلت مِن شأنه.
نأخذ مثال علاقة الثورة بالقضاء ثم نستعرض علاقتها بالجيش
لا يخفى على أحد في لبنان بأن القاضي عموما يعيّنه، ينقله، يعزله ويأمره المسؤول السياسي، الأمر الذي يجعل خضوع القاضي مسألة حتمية. لكن هذه العلاقة الموبوءة بين السلطتين التنفيذية والقضائية ليست سارّة للقضاة على الإطلاق. ومع اندلاع الثورة وانهيار حاجز الخوف، بات أمام القضاة حيّزا أوسع لتفعيل نزاهتم وتحكيم ضميرهم بما يوفّر لهم قدرا أكبر من الكرامة، وبما يوفّر للمجتمع كله درجة أعلى مِن تحقيق العدالة.
كما في القضاء كذلك في الجيش، سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار ان الجيش ليس عبدا لدى السلطة. فلو كان الشعب نائما، خاملا، خاضِعا، لربما استجاب الجيش لرغبات السلطة، لا بل وحقق جميع رغباتها. أما وقد اندلعت ثورة 17 تشرين فالأمر لم يعُد كذلك، والضباط الذين يصعب عليهم تقزيمهم إلى عبيد لدى السلطة، سيقولون في قرارة أنفسهم: نحن جيش الوطن، والثوار هم مواطنون ينشدون وطنا، ولا فرصة لنا للتعبير عن وطنيّتنا وللقيام بواجبنا إلا بمباركة الثورة ومؤازرتها.
كلّ الخير في هذا المسار، سيّما وأن المطلوب مِن الحكومة المقبلة ليس أمرا يسيرا، إذ تنتظرها تغييرات مستحقة عميقة دقيقة وجذرية، سوف تعترضها حتما الكثير مِن قوى الشدّ العكسي، والتي لا يمكن مواجهتها إلا بالتناغم مع الجيش لصالح الوطن وشعبه.
ومن بين التغييرات المستحقة ما عبّر عنه صبايا وشباب لبنان في كثير مِن اللقاءات الحوارية، مثل الإقلاع عن تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية، اقتناعا من الجيل الجديد بأن الغاء القيد الطائفي في ثنايا قانون الانتخاب كفيل بتحقيق ذات الهدف دون مماطلة ودون تكاليف، بل ودون فتح باب للالتفاف على هذا الهدف الوطني الذي تمّ تجاهله منذ توقيع اتفاق الطائف. كذلك الإقلاع عن تشكيل مجلس شيوخ، المقصود منه تقديم جائزة ترضية للطوائف بعد الانتخابات خارج القيد الطائفي. وصولا إلى القناعة التامّة بأنه ليس شرطا ان يكون رئيس الجمهورية من طائفة محدّدة، وهكذا رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، والأمر ينسحب نزولا إلى جميع وظائف الدولة.
في الختام
هكذا يكون الارتقاء إلى مستوى المرحلة والتماهي مَع عظمة الثورة، وبما ان لبنان اليوم تحت المِجهر العالمي، علينا اتخاذ قرار شجاع بهذا الصدد، وإلا كأنّنا نستدعي تبدّد جهود الثوار، أو التدخّل الخارجي وتدويل أزمة لبنان.
* رئيس جمعية صون حق التعبير.