بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 تشرين الثاني 2019 12:03ص قراءة سياسية في مسار ثورة 17 تشرين الأول (2/2) الثورة ردّ اعتبار للطائف والدستور ولبنان الرسالة بهويته العربية

حجم الخط
 البعد الوطني للثورة

لا يمكن إعتبار ثورة 17 تشرين الأول فعلَ إحتجاجٍ على تدهور الحالة المعيشية فقط، لأنها مع إمتداد أيامها باتت تصل إلى العوائق الجوهرية أمام قيام الدولة العادلة والقادرة. فشعار «كلّن يعني كلّن» إستهدف بشكل أساسي الأحزاب الحاكمة والمتسلطة على إدارة الدولة.

بوصلة الشعب: نحو الدولة دائماً

في قلب الوعي الشعبي، ثمة بوصلةٌ تشير دائماً إلى مكامن الخطر الحقيقية على الكيان، وهي اليوم تتجه تصاعدياً لتصبح رسالة كاملة الأركان، في وجه ثنائية السلاح والفساد، القائمة على سكوت القوى السياسية على سلاح «حزب الله»، مقابل سكوت الحزب عن الفساد. 

هذه الثنائية الجامعة بين السلاح والفساد، سهّلت إستهداف دويلة «حزب الله»، وسهلت إستهداف أحزاب السلطة من قبل الشعب، لأنها أسقطت أوراق التين التي تلطى بها أطراف التسوية، ورفعوا على أساسها شعار تأمين الأولويات المعيشية للناس، مقابل التسليم بالسلاح فكان الفشل شاملاً وفاضحاً، وكانت الثورة شاملة وعارمة.

أثبتت التجارب بالملموس، أن هذه التسوية، فاقمت الفساد وحطمت الإقتصاد، بعد تمادي أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله في الإساءة لدول الخليج وإنخراطه في حروب المحيط وتمدّده إلى اليمن، وتركيزه على مهاجمة السعودية، مما أدى لخسائر هائلة في القطاع الإغترابي، وجزء كبير منهم، من بيئته الحاضنة، فضلاً عن النهب الجشع للمال العام بالصفقات والمشاريع المشبوهة.

أسقطت التسوية كل الحدود الفاصلة بين الدولة والدويلة، وأوغلت عميقاً في إحياء الفتن الطائفية والمذهبية، وتمادت في الفساد وفي حجب حقوق الناس في مختلف حقول الخدمة، فسقطت كل مبررات التسوية.

صمود الثورة

عند إنطلاق الثورة، حاول البعض إحتواءها بحصر مطالبها بالقضايا الحياتية، وجرت محاولات مستميتة لـ«تحريم» التعرض لبعض الرموز وادخالها في دائرة التقديس والحصانة، ومنع الحديث عن سلاح الحزب ومخاطره على الشعب والكيان.

لكن الثورة بمكوناتها الغنية والمتكاملة، أسقطت كل هذه المحاولات، رغم شراسة القمع الذي تلقاه المتظاهرون، في ساحتي الشهداء ورياض الصلح.. فباتت الصورة اليوم كاملة وشاملة: تشكيلُ حكومة كفاءات بلا أحزاب، بمن فيهم «حزب الله»، صياغة قانون إنتخابي عادل، وتنظيم إنتخابات نيابية مبكرة.

ردّ إعتبار للطائف والدستور

هذه السلة الحقوقية الدستورية، هي ردٌ شامل بمفعول رجعي على كل الإرتكابات التي إرتكبتها أحزاب السلطة بحق دستور الطائف، وما تضمنه إتفاق الدوحة من إنحرافات، وبالتالي، فإن ما تسعى إليه هذه الثورة من أهداف، يسعى أساساً إلى إستعادة الدولة إلى قلب الوطن، ويسعى إلى إعادة التوازن بين السلطات بعد أن بات موقع رئاسة الحكومة مجرّد موقع شكليّ مع طغيان عون – باسيل عليه.. ويسعى لتطهير المؤسسات من الفاسدين.  

من دافع عن الطائف أيّد الثورة

يبقى الحديث عن أن هناك من سبق أن قاوموا هذه التسوية وإعترضوا على إنحرافاتها، ودافعوا عن الطائف وحدّدوا بوصلة المواجهة.. هؤلاء جاءت مواقفهم مواكِبة للثورة ومدافعة عنها ومستنكرة التعرض لها، وهم وقفوا على مسافة منها إحتراماً لشعاراتها، ورغبة في إبعاد الجدل والإرباك عن ساحاتها..

فالرئيس نجيب ميقاتي، الذي لم ينتخب العماد عون، جاهر بدعمه للثوار منذ الأيام الأولى، وأبدى إعتراضه على القمع وعلى إستخدام الجيش لإستهداف المتظاهرين، معتبراً أن «‏مشهد الحشود في طرابلس له معنى كبير جدا، وكل اهلنا وانصارنا مشاركون في التحرك الشعبي العارم في كل لبنان للتعبير عن المعاناة التي تمر بها مدينتنا. ومن فوائد هذا التحرك ان صوت طرابلس بات يسمع على العلن واتمنى أن يبقى صداه في أذهان المسؤولين».

وبقي مسانداً لموقع رئاسة الحكومة، رغم إمتناع الرئيس الحريري عن الدفاع عنه لدى تعرّضه لحملات العهد المنظمة، ومساهمة منظومته التعبوية في نشر التشهير بميقاتي.

والرئيس فؤاد السنيورة كان دائم الإعتراض على التسوية الرئاسية ونتائجها، وكان دائم التصدي لإنتهاكات العهد الدستورية، كما سارع إلى تأكيد دعمه للثورة، معتبراً أن ما شهده ويشهده لبنان منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، أعاد إحياء الأمل بلبنان الموحد السّيد الحرّ المستقل القائم على العيش المشترك الإسلامي المسيحي الذي أطلقه الاستقلال الأول عام 1943 وأعاد تثبيته وتجديده إتفاق الطائف والاستقلال الثاني عام 2005، وما يجري حدث لم يحصل على مدى تاريخ لبنان الحديث حيث أعاد شباب وشابات لبنان عبرها توحيد اللبنانيين وجمعهم في ساحة واحدة داعياً الشابات والشباب أن يحافظوا على الشمولية الوطنية للانتفاضة ومدنيتها ونبذ محاولات الإنجرار وراء زواريب الطائفية والمذهبية.

والنائب نهاد المشنوق، كانت له وقفاته المتواصلة في الدفاع عن الدستور وإتفاق الطائف، في فترات الصمت المريب والطويل الذي ساد طيلة فترة التسوية، وإستدراكه المبكر لمخاطر إنحراف التسوية ومخاطر التنازلات المقدمة فيها ودعوته إلى «المقاومة السياسية»، كما أنه إستشرف هذه المرحلة والأفق المسدود الذي وصلنا إليه، من خلال تأكيده أنه لا يمكن الوصول إلى الإستقرار والإزدهار إلا بوضع سلاح «حزب الله» على الطاولة وصولاً إلى «إستراتيجية دفاعية تعيد للبنان مواصفات الدولة الطبيعية، بحقوقها في السيادة على أرضها ومقدراتها، وبواجباتها كدولة مسؤولة أمام النظام الدولي، وليس دولة ساحة أو غرفة عمليات كما هو واقعنا اليوم»، محذرا من أنه «لا ازدهار ولا نموّ ولا تقدم، وأكاد أقول لا نفط ولا غاز، من دون الاتفاق الجدي والحاسم على الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية»، داعياً الرئيس عون وكل القوى السياسية للعودة إلى طاولة مباحثات جدية حول استراتيجية دفاعية، وإلا فنحن نتجه إلى مجهول لا نعرف إلى أين يصل».

اما موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط فتمركز في دعم الثورة ورفض المسّ بها.

القوات اللبنانية التي عاشت مرحلة كظم غيظ سياسي طويلة طيلة وجودها في الحكومة المستقيلة، خرجت منها في أواخر أيامها، وليس خافياً أن جمهورها حمل شعلة التحرك الشعبي في لحظاته الأولى، مع إصرارٍ واضح من قيادتها على أنها تقف في المساحة الإيجابية حول الثورة، ولا تتدخل في تفاصيلها ومسارها.

حزب الكتائب، إختار المعارضة للحكومة المستقيلة، وكان على مسافة قريبة من الشارع، وأنصاره مشاركون في التحركات الشعبية، ولهم حضورهم في الساحات..

أما الحزب التقدمي الإشتراكي، فإنه سبق الأحزاب إلى التظاهر في الشارع، وفي رفع المعارضة للفرعنة السياسية السائدة والخروج من التسوية، والإعلان أنه لن يشارك في أي حكومة مقبلة، الأمر الذي يعني أنه يستعد لمنازلة مباشرة مع «العهد».

الحلفاء والمسار

هذه القوى والشخصيات تقف على مسافات ملاصقة للثورة، وإذا كان المسار طويلاً، فإن الثورة تحتاج إلى زخمٍ متجدّد، وإلى مقارباتٍ متطورة، تفتح الباب لمسانديها بأن يضعوا قدراتهم في خدمتها، وأن يواكبوا حركتها ويدعموها، لأنهم تبنـّوا مطالبها الإجمالية، وبإمكانهم أن يشكلوا حالةَ صدٍ في وجه المعادين لها، يجمع بينها التمسك بالطائف والدستور وتبني الدعوة إلى الوصول إستراتيجية دفاعية وبناء الدولة على قواعد العدالة والشفافية.. مع إدراك هؤلاء «الحلفاء» أنهم أمام تحوّلاتٍ كبرى، تمهّد لمرحلةٍ جديدة، يلزمها الكثير من الجهود والقدرات للتمكن من التأقلم معها وفيها.

إن مسار المواجهة، يؤدي حكماً إلى تلاقي هذه الأطياف بغضّ النظر عن المواقف التفصيلية القائمة، وعن مآلات ومواقع الجميع في نهاية المطاف، لأن قوى السلطة الشريكة في الحكم والتسلّط والفساد لا تزال تمتلك الكثير من الأسلحة الثقيلة ومواجتها تحتاج إلى مقدراتِ حلفاء للثورة يمتلكون القدرات السياسية والتنظيمية والشعبية، والقادرة على رفدها ودعمها وتطوير أدائها، من دون المسّ بجوهر أهدافها ورسالتها. فالهدف واحد والمصير واحد. وثورة 17 تشرين الأول هي ردّ إعتبار للطائف ودستوره وللبنان الرسالة بهويته العربية الأصيلة البعيدة عن كل المؤثرات الخارجية.