صحيح ان مواقف التيار الوطني الحر بحق رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي تجاوزت المألوف والمعقول في التعاطي بين القوى السياسية، بالتوجه الى التجريح الشخصي لا الاتهام السياسي فقط، وصحيح ان التيار الحر ربما يعيش ازمة سياسية وتنظيمية داخلية بحيث لم يترك لنفسه صاحباً واحرج حليفه الوحيد حزب الله، وبات اسير شعارات وعناوين استنفرت العصبيات لأهداف ضيقة وغير قابلة للتطبيق. لكن الصحيح ايضاً ان الرئيس ميقاتي تجاوز حدود صلاحياته ولو «بلباقة»، بقطع اي اتصال برئيس الجمهورية بحجة انه سلمه المسودة الاولى والوحيدة لتشكيلة الحكومة «ودبر راسك»، من دون العودة الى الرئيس بأجوبة على ملاحظاته حول التشكيلة، وهي في معظمها صحيحة، حيث انها عدلت تشكيلة الحكومة الحالية باستبعاد بعض الوزراء المحسوبين فقط على رئيس الجمهورية والتيار الحر، وتركت باقي حصص القوى السياسية كما هي. وهذا انتقاص من حق الرئيس والتيار في بلد تحكمه التوازنات الدقيقة بعد اتفاق الطائف.
الخلاف بين الرئيسين عون وميقاتي اتخذ الطابع الشكلي والشخصي، لجهة توجيه الدعوة لزيارة الرئيس المكلف الى القصر، ولكن برأي البعض هذا الخلاف الشخصي مفتعل وهدفه عدم تشكيل الحكومة وترك حكومة تصريف الاعمال تحمل العبء من دون «عدة شغل» فعلية، وكأن المطلوب تحميل رئيس الجمهورية في الاشهر الاخيرة من عهده مسؤولية كل الارتكابات والموبقات والانهيارات، بينما هناك شركاء له في الحكم وفي موقع السلطتين التشريعية والتنفيذية ساهموا طيلة سنوات العهد الست، اكثر من رئيسه، في ما وصلت اليه احوال البلاد العباد. وهذه كلمة حق تُقال وليس دفاعاً عن الرئيس عون، او جبران باسيل الذي ارتكب ايضاً ما ارتكب. فالتسويات التي عقدت قبيل وصول عون الى سدة الرئاسة وبعد وصوله شارك فيها الجميع وحصدوا من غنائمها الكثير، حتى وصل العهد الى نهايته فبدا وكأن المطلوب تهشيمه بالكامل وإظهاره بموقع المتهم الوحيد.
اما بعد...فإن السجالات لم تعد تهم المواطن المغلوب على امره، ولم تعد ذات قيمة لا سياسية ولا عملية، فالكلام عالي السقف لا يوصل الى حلول للأزمات القائمة، وتبادل الاتهامات بالتعطيل والفساد لا يُوفّر الحلول للتعطيل ولا لمكافحة الفساد، بل خلقت هذه السجالات حالة من الاستنفار الطائفي دفاعاً عن موقعي رئاسة الجمهورية والحكومة، علماً انه لم يجرِ المس بهما فعلياً، بل ما جرى كان من ضمن اللعبة السياسية المعهودة منذ اتفاق الطائف القائمة على التسويات والمحاصصات، فلماذا الزهد والتعفف وإدعاء العودة الى الدستور الآن بعدما انتهكوه الاف المرات؟
لذا وجب الكف عن «نشر الغسيل» الوسخ وفضح كل طرف لإرتكابات الآخر امام أعين كل العالم، ووجب بدء العمل على تسيير وتيسير امور البلاد والعباد بعدما قررت اغلبية القوى السياسية سلفاً انه لا مبرر لتشكيل حكومة جديدة عمرها ثلاثة اشهر، كما نقل البعض عن ميقاتي نفسه، والتفرغ لمعركة رئاسة الجمهورية، وقد يبدو هذا امراً منطقياً في ظل الظروف القائمة وضيق الوقت.
اما معركة الرئاسة فصار لها لون خاص وإجراء خاص، بعدما إنكشفت ومن ثم احترقت اوراق معظم من يعتبرون انفسهم «مرشحين طبيعيين اومفترضين»، وبدأت تظهر طينة جديدة من المرشحين غير التقليديين، ولو ان بعضهم معروف التوجه والانتماء والارتباط السياسي والاقتصادي، سواء في الداخل او الخارج، وبعضهم يُطلق عليهم صفة «مرشحو صندوق النقد الدولي والسياسات الاقتصادية الدولية ومنظمات المجتمع المدني الدولية» (ngo)، وما ادراك ما تخفيه هذه المنظمات من اسرار وخبايا ومشاريع تؤثر على لبنان في دوره السياسي ومجتمعه واقتصاده وكيانه، وتحوله اكثر الى بلد متسوّل وتابع.