بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تموز 2018 12:00ص لا شرف كالعلم ولا ميراث كالأدب

حجم الخط
أن ترى ولداً لا يتجاوز عمره العشر سنوات يحمل سلة على ظهره وضمنها أكياس من الخضروات والفاكهة واللحم ويسير بها خلف سيدة خرجت من الأسواق المجاورة لساحة الشهداء، فذلك منظر مألوف. وخطوة بعد خطوة إذ بالولد يصل إلى البناية حيث تسكن السيدة، فيصعد خلفها السلالم إلى الطابق الرابع أو الخامس، حتى اذا ما وصل إليه، رجع وأمسك بيديه حبل السلة وتركها تهبط رويداً رويداً إلى أن تلمس الأرض، بعدها يجلس الولد على الدرجة العليا للسلم ويمسح العرق عن جبينه بقماش كمَّيه، ومع انتهاء الاستراحة يعود الولد حيث انطلق ليعاود المشوار المرة تلو الأخرى. وعند وصوله الساحة يسأل أخاه أو صديقه ماسح الاحذية عن مقدار غلته، فيجيبه هذا إما لا بأس بها وإما هي ليست على ما يرام.
عشرات من هؤلاء الأولاد دفع بهم أولياؤهم الى العمل الشاق المذل ليجنون من عملهم قروشاً لا تتعدّى العشرة في الأسبوع تكفي لشراء خبز يومهم. أما هم، فمعظهم يعمل عتالاً أو حمالاً في مرفأ بيروت.
هؤلاء الآباء والأبناء، كانوا ضحية السلطات التي كانت تحكمهم فتتجاهلهم وتتركهم يعيشون في الجهل والفقر والمرض.. طريقان كانا أمامهم. إما النزوح إلى العاصمة لتأمين قوت حياتهم وإما الصعود الى الباخرة لنقلهم إلى مرسيليا ومنها إلى أي دولة في افريقيا الغربية، عسى ولعل.. فالهجرة كانت أملهم الوحيد الباقي في الحياة. إنها فعلاً حالة اجتماعية مأسوية. وهذه الحالة لم ترُق لانسان غيره، تربى كأبيه على عمل الخير وخدمة المجتمع، فتصدى لها بعزيمة لا تقهر، ورأى أن العلة تكمن في غياب العلم والتعلم وانتشار الجهل، فقرر مكافحته بدءاً بتعليم الصغار، وأسس لذلك في العام 1923 جمعية خيرية وراح يجمع لها التبرعات من أهل الخير والاحسان، فاشترى بما جمع أرضاً في بيروت سجلها باسم الجمعية وأقام عليها غرفتين خشبيتين جعل منهما منطلقاً لمدرسة ابتدائية، يعرف من أين يأتي بتلامذة لها.
صعد إلى شاحنة واتجه بها إلى ساحة البرج يلتقط أولئك الأولاد الذين كان يصادفهم ويضعهم في الشاحنة. ولما امتلأت هذه، ذهب بهم إلى المدرسة حيث تمّ اغتسالهم وإلباسهم ثياباً جديدة سبق أن اشتراها لهم قبل «مصادرتهم». وحين حضر أولياؤهم بعد عناء تفتيش طويل بادرهم القول أن أولادهم قد أصبحو أولاده ودعا كلاً منهم إلى الحضور كل يوم سبت من الأسبوع ليقبض منه ما كان ابنه يجنيه له من قروش لا تتجاوز العشرة.
هكذا انطلقت العاملية عام 1928 مع أول مدرسة لها. ولم يكتفِ الرشيد بهذا الانجاز الذي اعتبر حينها منعطفاً تاريخياً في حياة الناس القاطنين في الجنوب والبقاع وبعض قرى الجبل النازحين إلى العاصمة، بل أضاف إليه سبعاً وثلاثين مدرسة في سبع وثلاثين قرية في المناطق إياه نتيجة اتفاق جرى بينه وبين المفوض السامي الفرنسي عام 1937، حين كان نائباً. وهذا الاتفاق قضى بأن يؤمن الرشيد غرفتين كمدرسة في أي قرية يختارها ويدفع بدلاتها، وهو من جهته ـــ أي المفوض السامي ـــ يرسل إليها المعلمين من وزارة المعارف، وهكذا بدأ انتشار العلم في قرى المناطق المذكورة. ومع سقوط فرنسا «بيتان» petain في الحرب العالمية الثانية عام 1941 وعودة فرنسييها إليها من لبنان، تحولت هذه المدارس الى مدارس رسمية.
ستة وثمانون عاماً مرّت والجمعية العاملية ماضية في رسالتها التربوية والتعليمية. من غرفتين خشبيتين انطلقت وانتهت بصروح علم في خدمة لبنان وبنيه. والألوف الذين تخرجوا منها، شابات وشباباً، أعطوا أحسن ما عندهم في مختلف حقول العلم بعد ان تخرجوا من الجامعات وأقبل أكثرهم على التخصص.
ميزة العاملية بين أقرانها أنها لا تعرف التعصب الا إلى لبنان. فالكل عندها عباد الله أقربهم إليه انفعهم لعياله، تستقبل كل من يطرق بابها، لا فرق عندها بين طائفة وأخرى أو بين مذهب وآخر. تحتضن الفقير والمعوز وتمدهم بالمساعدة التي تصل إلى حدّ المجانية. سياستها التربوية مبنية على قواعد الانفتاح والتسامح والأخوة. وبسبب الظروف الصعبة التي تلت العام 2005، اضطرت العاملية إلى بيع جميع عقاراتها لسد عجوزاتها السنوية الواحد تلو الآخر.
ما العمل الآن لضمان استمرارية رسالة العاملية؟
الحل هو في اشراك المجتمع المدني الخير ودعوته إلى أن يسهم في مساعدة تعليم تلامذة الجمعية. فالمصارف والشركات والأفراد المتقدرون على المساهمة ما بخلوا يوماً على أي عمل تعليمي أو ثقافي  وثقوا بالقيّمين عليه ووجدوه أهلا للمساعدة.
والعاملية، مقابل مساهمة سنوية مقدارها ألف دولار أميركي تدفع عن التلميذ الواحد، ستحفظ لصاحبها أجمل الجميل وتخلد إحسانه بوسائل مختلفة.
المحسن الكريم،
أملنا ورجاؤنا ان تنضموا إلينا تحت علم العاملية وترددون عنا الشعار الذي لا شك تؤمنون به وهو: «لا شرف كالعلم ولا ميراث كالأدب».
ثقوا أن لبنان لا ينمو الا بالعلم الصحيح والسليم ولا يتقدّم الا بهما ولا يسلم الا معهما.
وأننا لواثقون أن نداءنا هذا لن يذهب معكم سدى.
حفظكم الله وحقق لكم الآمال والأماني.
  رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية
*نائب ووزير سابق