بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 نيسان 2018 12:00ص لا یعرف الذل إلا مَنْ كابده

حجم الخط
منذ فترة وجیزة قرأت في إحدى الصحف مقالا لمواطن لبناني، لدیه صفة مسؤول بعنوان «لا یعرف الظلم إلا من كابده». یقول هذا المواطن في مقاله بأنّه تعرض للظلم من قبل السوریین رغم انه كان من أكثر المتعاملین معهم كسائر العاملین في الشأن العام آنذاك، ما دفعه إلى الابتعاد عن بلده قصرا والعیش في باریس. وقبل مقاله غرّد هذا المواطن اللبناني فرحا بخروج مواطن آخر من السجن بعد أن كان قد ظلِم من قبل الدولة ومؤسّساتها ولحسن حظه یقع في دائرته الانتخابیة، طالبا من اللبنانیین الاعتذار عن تقصیر في شيء لم یقترفونه وكأن الاعتذار أصبح بالإكراه. فالرسالة من المقال والتغریدة بحسب كاتبهما على ما یبدو هو تسلیط الضوء على ظلم لحق بمواطنین اثنین فقط لا علاقة لنا به كون المظلومیة فردیة ولیست جماعیة. 
من هنا لا یمكنني سوى الوقوف أمام هذا المشهد المخیف من تحویل حادث عابر في الزمان والمكان إلى «ظلُم» ومظلومیة من اجل دعایة انتخابیة. تناسى هذا المواطن اللبناني عند كتابة مقاله إنّ الكثیر الكثیر من اللبنانیین تعرّضوا للظلم من قبل السوریین أضعاف ما تعرّض له هذا المواطن. فلا یختلف اثنان على أن الوجود السوري في لبنان ساهم في ظلم الكثیر واتفاق مار مخایل بین التیار الوطني الحر وحزب لله استذكر هذه المظلومیة في أحد بنوده عندما طلب من الحزب مراجعة ملف المخطوفین والمسجونین في السجون السوریة ورفع المظلومیة عنهم. نسي أو تناسى هذا المواطن أن الوجود السوري قد ألحق الضرر بالكثیر من اللبنانیین وأن هناك أمهات ما زالت تبكي حتى یومنا هذا، ولمَ یستذكرن مظلومیتهن. نسي أو تناسى أیضا أن باریس لیست ظالمة كسجن المزّة وأنّه في باریس كان یمكنه رؤیة مَنْ یشاء على عكس أمهات الأسرى والمخطوفین والمعذّ بین في سوریا، ولكن في الانتخابات المظلومیة هي نكهة الحملة الانتخابیة ودعایة شعبویة من أجل كسب بعض الأصوات من خلال اللعب على سیكولوجیا الظالم والمظلوم.
 ولكن هناك شيئاً بقي طي الكتمان، فلن أغوص في الجدلیات الفلسفیة لمبدأ الظلم والظالم والمظلوم، ولكن سأكتفي ببعض النقاط البسیطة جداً وذات الطابع المجتمعي لا الفردي على قاعدة أنّ عاملي الشأن العام غالبا ما یهمهم المصلحة الجماعیة المجتمعیة لا الروایات والحالات الفردیة السطحیة. فلم یحدثنا هذا المواطن خلال فترة إقامته في باریس عن وزیر الداخلیة الفرنسي آنذاك، الذي كان متهما بالفساد كسائر الطبقة الحاكمة هناك ظالما بذلك السواد الأعظم من الباریسیین والفرنسیین.
لم یخبرنا كیف كان هذا المواطن یظُلمَ شدید الظلم عندما كان یقفل وزیر الداخلیة الفرنسي الطرقات عند كل زیارة رسمیة وغیر رسمیة یرید القیام بها ساجنا الآلاف من المواطنین في سیاراتهم لساعات في عاصمة مكتظة بالسیارات كي یمر موكبه بهدوء دون مبالات أو حتى أخذ بعین الاعتبار النساء الحوامل أو المرضى أو حتى الأولاد. لم یخبرنا كیف كان رجال أمنه یشتمون كل من حولهم عند مرور موكبه بطریقة مذلةّ ومهینة وكأن الناس هناك رعاع لا قیمة لهم. أیضا نسي أن یكتب عن المظلومیة التي تعرض لها هناك بسبب إقفال الطرقات قرب منازل ومقرات عمل كافة السیاسیین بمَنْ فیهم وزیر الداخلیة الفرنسي الواقعین في وسط العاصمة مسببا زحمة سیر غیر طبیعیة وإقفال مئات المؤسّسات التجاریة. لم یقل لنا أیضا كیف كان وزیر الداخلیة الفرنسي یوزع «نمَر» السیارات على الأصحاب وكأنها ملكه الشخصي ولیست ملكا عاما وللمظلومیة لائحة لا تنتهي تعرّض لها الشعب الفرنسي على أیدي وزیر داخلیته آنذاك.
أیضا وأیضا، لم یخبرنا كیف عند موسم الانتخابات النیابیة تحوّل وزیر الداخلیة الفرنسي وبسحر ساحر إلى شخص متواضع یزور أحیاء العاصمة الفقیرة التي تعرّف علیها حدیثا بسبب الانتخابات مطلقِاً تماما نفس الوعود الانتخابیة التي أطلقها قبل 9 سنوات ناعتا كًل من لیس معه بالـ»أوباش» غیر مبالٍ لآرائهم وحتى توجهاتهم. لم یخبرنا عن مظلومیة الشعب هناك وتراجع مستواهم المعیشي بسبب انخراط الطبقة السیاسیة في ملفات فساد أدت إلى إفلاس الدولة. لم یقل لنا عن لعنة الحیاة هناك بسبب انقطاع الكهرباء بشكل هستیري، وعن خدمة الإنترنت الردیئة وعن غیاب الطبابة والعنایة، وعن غلاء المعیشة وعن ارتفاع نسبة الفقراء وتفلّت السلاح والقتل الهمجي. لم یخبرنا عن مظلومیة الباریسیین بسبب التلوث والنفایات وارتفاع الجنوني للسرطان والأمراض الغریبة وتحویل عاصمتهم إلى سجن كبیر.
نعم لا یعرف الظلم إلا من كابده، فلن یعرف معنى الظلم الحقیقي المجتمعي لا الفردي إلا المواطن الفرنسي الذي كابد حكّامه عند كل إشراقة شمس حتى أذلّوه منذ عام حتى یومنا هذا. فیبدو من خلال مقال المواطن اللبناني أن المظلومیة نوعان البرجوازي والشعبي هي تماما كالفرق بین أحلام الأغنیاء والفقراء. منهم من یحلم أن یكون لدیه بیت صغیر ومنهم من یحلم أن یستبدل قصره بسرایا. كان من الأجدى طبعا وفيِ ظل الشعبویة الانتخابیة والدیماغوجیة السیاسیة كتابة مقال لكافة اللبنانیین دون تمییز من قبل هذا المواطن یخبرهم فیه عن الذل الذي تعرض له الفرنسیین من قبل حكامهم تحت عنوان لا یعرف الذل إلا من كابده. 
د. هاني عانوتي