بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آب 2020 07:22ص لبنان نحو فصل جديد

حجم الخط
مَن يكنّون بيننا حباً عميقاً للبنان تؤلمهم كثيراً مشاهدة هذه البلاد الرائعة التي أغدق عليها الله الكثير من نعمه تنهار وتخور قواها، لا سيما وأن سقوط لبنان في الظلمة ليس مردّه إلى كارثة طبيعية.

نبكي بيروت، العاصمة اللبنانية الجميلة التي تضج بالحياة، والتي بات جزء كبير منها مدمَّراً أو لحقت به أضرار جراء الانفجار الهائل الذي هزّ المرفأ وبدا، نظراً إلى ضخامة حجمه، أشبه بانفجار قنبلة نووية صغيرة. نبكي من أجل العائلات والأصدقاء الذين فقدوا أحبّاءهم ومن أجل الأشخاص الذين يُعالَجون من إصابات حرجة في المستشفيات. نبكي من أجل الأمهات والآباء الذين يتألمون لفقدان أطفالهم. ويتملّكنا الحزن على الكنائس والمساجد والمستشفيات التي دمّرها عصف الانفجار، ونشعر بالأسى من أجل الأشخاص الذين سُوّيت منازلهم وأعمالهم بالأرض.

كان يُقال عن لبنان في ما مضى إنه جنّة الله على الأرض. إنها بلاد الثقافة والفن والحنكة في الأعمال والروابط العائلية المتماسكة. لقد أنجبت هذه الأرض فنانين وشعراء وكتّاباً وممثّلين ومصممين ورواد أعمال ذاع صيتهم في مختلف أنحاء العالم، وقد غادر كثرٌ بلادهم بحثاً عن فرص أفضل. ولكن سرعان ما يكتشف الأشخاص الذين يرحلون عن لبنان أن هذا الوطن يبقى ساكناً في قلوبهم إلى الأبد.

يساند المغتربون اللبنانيون من مختلف الأعمار وطنهم الأم، ويقدّمون الدعم لأبنائه بغض النظر عن الانتماء الديني. يتوحّدون في الأزمات، وهذا التعاضد يجب أن يكون مصدر اعتزاز شديد لهم. أحيّي جميع الأشخاص الذين قدّموا مساعدات مادّية وفقاً لإمكاناتهم. كثرٌ منهم ليسوا من الأثرياء، لكنهم شعروا بأن من واجبهم تقديم مساهمة. أحيّي هؤلاء الأشخاص علماً بأن أصحاب المليارات والملايين في لبنان لم يبادروا بعد إلى المساعدة، فيما خلا استثناءات قليلة.

وقد تأثّرت أيضاً برؤية اللبنانيين يفتحون منازلهم للغرباء كي لا ينام أحدٌ في الشارع، وأعبّر عن احترامي الشديد للشبّان الذين أخذوا على عاتقهم تنظيف الركام في المناطق المتضررة. لقد كان سلوك اللبنانيين ملهماً بعد الكارثة التي ألمّت بهم.

وقد عبّر الأشخاص من مختلف أصقاع الأرض عن حبّهم للبنان وإعجابهم بصمود اللبنانيين الذين يأبون أن يستسلموا أمام المصائب والأنواء، مهما كانت قاسية، ولا يسمحون لها بأن تخنق حبهم الفطري للحياة.

ولكن الشباب اللبنانيين ضاقوا ذرعاً بالأوضاع ولم يعودوا يقوون على التحمّل؛ هم يريدون الأفضل لبلادهم. يطالبون بمنظومة سياسية جديدة قادرة على بناء مستقبل يقوم على مرتكزات راسخة عنوانها الاستقرار والأمن، ولكن ذلك لا يتحقق إلا عند التخلي عن الولاءات المذهبية وإعطاء الأولوية للانتماء الوطني. سوف يشرق فجر البلاد عندما يرصّ جميع أبنائها وبناتها صفوفهم ويشبكون يداً بيد ويرددون معاً: «جميعنا لبنانيون نفتخر بانتمائنا إلى لبنان».

ناشدت اللبنانيين، في العديد من المقالات التي كتبتها على مر السنين، أن يضعوا حب بلادهم قبل أي شيء آخر وأن يعملوا على التخلص من المنظومة السياسية الطائفية والبائدة التي تزرع الفرقة والانقسام. يعرف اللبنانيون جيداً ما يجب القيام به، ولكن الحرس القديم يمنعهم من تحقيق ما يصبون إليه.

الإصلاح مطروح دائماً على طاولة البحث، ولكنه يبقى عالقاً هناك ولا يتقدّم، وتسقط الوعود والتعهدات في غياهب النسيان بما يتناسب مع مصالح مطلقيها. لهذا السبب، تعثرت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 10 مليارات دولار أميركي، وليست الأموال التي جُمِعت في مؤتمر المانحين الافتراضي الذي نظّمته فرنسا والأمم المتحدة سوى مجرد قطرة في بحر من الاحتياجات. فالبلاد تحتاج فوراً إلى مليارات الدولار، ولكن الدول المانحة تشترط إجراء إصلاحات من أجل تحرير الأموال.

إنه الوقت المناسب كي يمارس المجتمع الدولي ضغوطاً على لبنان للتخلص من المنظومة السياسية السرطانية، مع المطالبة بإجراء تعديلات دستورية. فمن شأن ذلك أن يتيح إجراء انتخابات حرّة ونزيهة تقود إلى اختيار نوّاب من مختلف المذاهب يتحلون بالمناقبية ويعملون بكد، على أن يجري انتخابهم استناداً إلى الكفاءة والخبرة فقط لا انطلاقاً من انتماءاتهم الطائفية.

يجب أن يتخلّص اللبنانيون من المنظومة السياسية الفاشلة التي تربط على نحوٍ لا ينفصم بين الدين والدولة، وهذه المنظومة تُبقيهم أسرى معسكرات مختلفة وأحياناً متناحرة. ويجب أن تتولى هيئات دولية مراقبة الانتخابات عن كثب والتدقيق في نزاهتها.

يوم الاثنين، استقال رئيس مجلس الوزراء اللبناني وحكومته تحت ضغط الاحتجاجات، ولكن الحكومة سوف تواصل تصريف الأعمال بانتظار تشكيل حكومة جديدة. عسى أن تجرى انتخابات سريعاً، وأن يختار اللبنانيون أشخاصاً أكفياء ذوي سجل نظيف.

لن تمتلك الحكومة العتيدة حلاً سحرياً للمشكلات التي تعاني منها البلاد، ولكن إذا كان أعضاؤها منفتحين على الإصلاحات وعلى العمل مع الدول الصديقة مثل فرنسا وغيرها من البلدان الحريصة على مصلحة لبنان فضلاً عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سوف ترتقي البلاد إلى مستويات جديدة.

من شأن تعديل الدستور تمهيداً لانضمام وجوه جديدة إلى الحكومة ومجلس النواب تكون محل ثقة أن يفتح الباب أمام تدفق استثمارات ضخمة إلى البلاد، بحيث إن لبنان لن يحتاج سوى إلى قروض قصيرة الأمد للشروع في إعادة إعمار البنى التحتية والنهوض بالاقتصاد.

الدعم المالي من الدول الأجنبية ضروريٌ في هذا الظرف، لكنه مجرد حلّ مؤقت. إذا لم تتغير المنظومة والأفرقاء الذين يستغلونها منذ عقود، فقد يستمر لبنان في التخبط وحيداً. أنا أؤمن بشدة بأن الناس توّاقون للتغيير؛ فهم لم يعد لديهم صبر، والقوى الكبرى تدرك ذلك.

أنا على يقين من أنه عند صعود الدرجة الأولى في هذا السلّم، والتي تتمثل بتعديل الدستور وإجراء انتخابات جديدة، سوف يقف العالم بأسره إلى جانب لبنان. ينبغي علينا جميعاً أن نمدّ يد المساعدة كي يستعيد لبنان عافيته كأمةٍ موحّدة تستظل العلم اللبناني.

 أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي سينهض فيه لبنان الحبيب على قدمَيه من جديد، بما يتيح لخيرة أبنائه وألمعهم بأن يتألقوا ويُبرزوا طاقاتهم. أتطلع إلى زيارة بيروت والاستمتاع بروعتها وعشقها للحياة والفرح، وإلى الاحتفال بإعادة إعمارها مثلما فعلت عندما قام رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، ذلك الرجل العظيم الذي كان صديقاً لي، بإعادة بناء وسط العاصمة وتحويله إلى مكان رائع. عندئذٍ، سوف نكون على موعد مع إنجاز مذهل يعيد إلى بيروت سحرها وتألقها. سوف ينهض لبنان من كبوته ويستعيد ازدهاره، وأتمنى أن يتحقق ذلك في القريب العاجل.