عشنا في هذا البلد لعقود، وكنا في ما سمح لنا العمر منها على اطلاع على ما كان يدور في السياسة، شأننا في ذلك شأن كل اخوتنا المواطنين من كل المناطق والطوائف والأهواء.. ليس هذا فقط بل لقد سمح لنا وضعنا كأبناء المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد - رحمه الله - أن نكون على اطلاع يفوق اطلاع المواطنين على ما كان يحدث، خاصة بما يتعلق بأساليب وطقوس ممارسة السياسة، أو بما يتعلق بأحوال الناس والمجتمع بكل ما في هذه الأحوال من هموم ومشكلات وتحديات..
أعترف أن ما نشهده اليوم لم يسبق لنا أن رأينا مثله يوما.. لا في ما يتعلق بأحوال المجتمع، ولا في ما يتعلق بأحوال السياسة.. من يا ترى هو الذي تغير؟.. البشر هم ما زالوا نفسهم البشر.. حتى في حرب كان ابتلي بها وطننا لمدة 15 عاما لم نشهد ترديا مثل هذا التردي الذي نشهده اليوم.. لم نشهد مثل هذا الذي يحدث في السياسة ولا هذا الذي يحدث في الاقتصاد.. ولا هذا الذي يفتك بالمجتمع سلوكا وهموما وتقهقرا وفقدان أمل..
كنّا شهدنا الحرب.. نعم هي هدمت الحجر وأودت بكثير من البشر من خيرة ابناء الوطن.. لكنها لم تهدم كل تلك الصور المتوارثة عبر الأجيال عن صورة رجل السياسي أو صورة ذلك العامل في الشأن العام.. بكل ما في هذه الصورة من سلوك وتصرّف وطرق مقاربة والتزام بالقوانين والدستور، والتزام بقواعد الشفافية والصراحة والاحترام المتبادل، وعدم خرق أي خطوط حمر من خطوط حامية للانتظام العام والأخلاقي..
نعم كثير منا انقسم جغرافيا واحيانا سياسيا في الحرب.. لكن لا اذكر أن احدا منّا نحن اللبنانيين انقسم حول محبة الوطن واعتباره أولا في كل حساب.. نعم حتى في سلميتنا كان كل منا نحن اللبنانيين يدافع عن لبنان على طريقته.. أو كما أرغمته على ذلك الظروف بما يتعلق بأولئك الذين كانوا مع الأسف حملوا السلاح..
رغم الانقسام كانت هناك لغة وطنية لدى المواطنين جميعا، ولدى السياسيين جميعا، ما من يوم مست أقله علنا بأي قدسية أو أي مبادىء أو أي قيم أو أصول أو قواعد.. كان لذلك الزمن رغم كل شيء أخلاقه.. كنا في الجانب الآخر من التموضع التي أجبرت الحرب اللبنانيين جميعا عليه وكان في المقابل إخوة لنا وشركاء لنا في الوطنية.. لم نلاحظ يومها ولم نشعر أن لبنان لم يكن مظلتنا جميعا..
نعم كل منّا كان يريد هذه المظلة وفق هواه، ومنّا مَنْ كان يريدها أن تكون وفق ما كان يعتبرها حقوقه.. لم يكن هناك لا بيننا ولا بينهم من كان يفضل دول أخرى على بلده.. كانت الوطنية مسألة لا نزاع في تفسيرها ومثلها السيادة والحرية ومنطق الدولة وكثير مما هو مألوف.. حتى الحقيقة لم تكن يوما في الخلافات وجهة نظر.. لا أذكر أنّي رأيت أحدا في تلك الأيام يعتدي علنا على حقيقة.. كنا كلبنانيين في حرب ورغم ذلك بقي للقانون جانب من القدسية في تصرفات الكثير من السياسيين.. حتى الدستور حين ارادوا إنهاء الحرب باتفاق سياسي الكل لجأ اليه..
في الحقيقة، كنّا يومها في زمن الأبيض والأسود في كل مجال.. زمن الصدق.. كان الزعيم تصنعه أعماله.. والحقيقة تشرّعها طبيعتها.. كنا في زمن المواقف السياسية التي لم تكن من النوع الذي فيها كلام الليل يمحوه النهار..
كنّا في زمن يصطاف في بلادنا الملوك وأصبحنا اليوم في زمن كل منّا يود أن ينصّب نفسه ملكا على جماعته بجزية وقدرها فقر الرعية.. نسأل العلي القدير الفرج.. فالشكوى لغير الله مذلة..